لا تقاس دائرة كسروان ـ جبيل (جبل لبنان الأولى) بمقاعدها فقط، بل برمزيتها. هي الدائرة التي أتى منها ميشال عون، إلى رئاسة الجمهورية، وهي الدائرة التي تنتخب وحدها حوالى ثلث المقاعد المارونية (8 مقاعد)
بعد صدور نتائج الانتخابات البلدية عام 2010، أطلق «مسيحيو 14 آذار» حملة على العماد ميشال عون تُشكّك في شعبيته داخل طائفته، وتستند إلى خسارة التيار الوطني الحرّ في الانتخابات وعدم حصوله على مقاعد تُعبّر عن هذه الأكثرية التي يمتلكها. لكن، بحسب الأرقام، كانت الحملة ترتكز على النتائج في البلديات المختلطة، حيث حصد عون أكثرية «مسيحيّة».
لا بد من إعادة ترتيب البيوتات الداخلية، فالشعارات لم تعد كافية وحدها (مروان طحطح)
إلا أنّ أصوات الناخبين «المسلمين»، التي صبّت لمصلحة خصومه حرمته من تأمين مقاعد بلدية توازي تلك الأكثرية. يومها، عقد عون مؤتمراً صحافياً، قال فيه إنّهم «إذا أرادوا الإيحاء بأنّهم هم من انتصروا، فالطاووس وزنه 3 كيلوغرامات، وعندما ينفش ريشه يظُنّ أن وزنه 3 أطنان، لكن على الميزان يبقى وزنه 3 كيلوغرامات».
المقارنة تدحض الأرقام
عملية «نفش الريش» التي لجأ إليها خصوم عون من فريق 14 آذار، تعتمدها ماكينات التيار الوطني الحرّ الإعلامية والانتخابية والسياسية اليوم بعد صدور نتائج الانتخابات النيابية. تنطلق هذه الماكينات من نظرية خسارة مقاعد في دوائر وتعويضها في دوائر أخرى، وهو معطى بديهي خصوصاً في قانون قائم على النسبية، يكسر المحادل ويسمح لكلّ فريق بأن يتمثّل وفق حجمه. اعتمد «التيار» هذه الطريقة، كمدخل للترويج لارتفاع عدد مقاعد «تكتل لبنان القوي» من 19 نائباً إلى 29 نائباً، من ضمنهم 18 نائباً حزبياً (وفق الأرقام التي أعلنها النائب جبران باسيل خلال مؤتمر صحافي أمس). علماً أن تكتل التغيير والإصلاح، دخل إلى برلمان 2009 بـ27 نائباً (من ضمنهم 12 حزبياً) ثمّ تراجع إلى 19 عضواً، مع خروج نواب المردة والطاشناق والحزب الديموقراطي اللبناني. هذه المقارنة بين انتخابات 2009 و2018، تدحض ارتفاع أعضاء التكتل. لا بل أكثر من ذلك، يؤدّي التدقيق بأرقام المقترعين ونسبة المشاركة، إلى ترجيح كفّة خسارة «التيار» في هذه الانتخابات، ولو أن رئيسه يتوقع أن يصل الرقم اليوم إلى ثلاثين نائباً!
القوة التجييرية للقوات ترتفع
وفق الأرقام المتقاطعة للماكينتين الانتخابيتين للقوات اللبنانية والتيار العوني في دائرة كسروان ــ جبيل (كمثالٍ لما لديها من رمزيّة للزعامة المارونية)، بلغت نسبة الاقتراع في جبيل عام 2009 نحو 65 في المئة فيما تراجعت إلى 42 في المئة عام 2018 (وفق الأرقام الأولية). يمتلك التيار الوطني الحرّ في هذا القضاء كتلة مضمونة مقدّرة بنحو 19 ألف ناخب، حصل عام 2009 على نحو 29 ألف صوت رافعاً قوته التجييرية بنحو 9 آلاف مقترع (من ضمنهم نحو 6 آلاف ناخب شيعي). عام 2018، حصل «التيار» على 18.4 ألف صوت، من ضمنهم 17.5 ألف ناخب مسيحي و800 ناخب شيعي، بحيث لم ينل أصوات كتلته المضمونة ولم ينجح باستقطاب أعداد إضافية، كما خلال دورة الـ2009.
أمّا في كسروان، فقد بلغت نسبة الاقتراع عام 2009 نحو 67 في المئة وتراجعت في هذا الاستحقاق إلى 54 في المئة (أرقام أولية). يملك «التيار» كتلة تُقدّر بنحو 22 ألف صوت، حصل عام 2009 على نحو 30 ألف صوت، رافعاً قوّته التجيرية بنحو 8 آلاف صوت. في حين انتخب منهم، حالياً، نحو 16 ألف مقترع، وحصل مرشحو «التيار» على 14 ألف مقترع منهم، وتوزّع ألفا صوت على مرشّحين آخرين. ليكون التيار العوني قد حقّق بذلك، خسارة بنحو 8 آلاف صوت من كتلته المضمونة. يأتي هذا التراجع، مُقابل تقدّم طفيف في الأرقام صبّ لمصلحة القوات اللبنانية. نال مرشّحها شوقي الدكاش 10 آلاف صوت في كسروان، فيما قدرة «القوّات» التجييرية في هذا القضاء، تُقدّر بنحو 8 آلاف صوت. وفي جبيل، نال زياد حواط 14.5 ألف صوت، أي بنحو 1.5 ألف صوت إضافي عن قوتهم التجييرية، المُقدّرة في جبيل بنحو 13 ألف صوت.
أرقام سياسية… بامتياز
هذه ليست مجرد أرقام. أرقام لها أبعادٌ سياسية تبرز للمرّة الأولى. تنطلق من فرضيّات عدّة، وتتزامن مع الانتخابات الأولى التي يخوضها التيار الوطني الحرّ، بعد انتخاب مؤسّسه رئيساً للجمهورية، وبالتالي شغور مقعد العماد ميشال عون النيابي في كسروان، الذي بقي فيه لأكثر من 11 عاماً. أولاً، تُقرّ مصادر في «التيار»، بوجود تراجع في أرقامها، وتعيد ذلك إلى وجود أشخاص على اللائحة «يتقاسمون» جمهور التيار الوطني الحرّ، مثل شامل روكز ونعمت افرام وزياد بارود. فضلاً عن الآثار السلبية التي ترتبت على وضعية الحزب نتيجة الخلافات الداخلية المتراكمة منذ سنين، وتشتّت القواعد التي كان يستقطبها حصراً الرئيس ميشال عون.
ثانياً، تتحدّث مصادر «التيار» عن توسّع قاعدة «القوات»، خصوصاً لدى الكتلة الناخبة الشابّة التي تستحوذ على 27 في المئة من مجمل عدد الناخبين المُسجلين في لوائح شطب الدائرة. وقد نجحت القوات اللبنانية، في تظهير صورة جديدة عنها تختلف عن تلك الصورة «الشيطانيّة» التي توارثها أهالي كسروان وجبيل من الحرب اللبنانية، والتي تعزّزت بفعل «المصالحة» بين معراب والرابية (سابقاً).
شريحة المستقلين تفعل فعلها
أما ثالثاً، فقد تكوّن جمهور «التيار» سابقاً، وفي شكل أساسي، من المستقلين (بين 70 إلى 80 في المئة من مجمل الناخبين). وهي فئة انضمّت إلى القاعدة العونيّة الشعبيّة، منذ عام 1989، وتوسّعت بعد انجذابها إلى خطابه الوطني ومناداته بالمؤسسات في أواخر الحرب. فضلاً عن نبذ الكسروانيين، للقوات اللبنانية نتيجة ارتكاباتها. ومن ثمّ رافقت هذه القاعدة عون بعد عودته من المنفى، وكرّسته زعيماً لها «لمكافحة الفساد وإصلاح المؤسسات». قسمٌ يئس، لقناعته بانخراط «التيار» ضمن منظومة السلطة وتحوّله إلى جزء أساسي منها. اختبر «التيار» نقمة هذه الفئة، خلال انتخابات الأحد الماضي. وتبدّى من «خسارته» دعم وتأييد هذه الشريحة التي لم يشارك قسم كبير منها في العملية الانتخابية، أو صوّت بعضها لمرشّحين آخرين، وهو ما أدّى إلى انخفاض الحاصل الانتخابي بما ضمن حصة أكبر من المقاعد للقوات اللبنانية (مقعدان) ولائحة «عنا القرار» (مقعدان)، بعد أن كان يراهن «التيار» على أن يحصدا مجتمعين مقعدين فقط.قسمٌ من العونيين يئس، لقناعته بانخراط «التيار» ضمن منظومة السلطة وتحوّله إلى جزء أساسي منها
يُحسب الفوز في أي معركة بالاستناد إلى الأهداف التي وضعت لها. في الانتخابات النيابية، كان هدف «التيار» الأوّل، الحفاظ على «الأكثرية المسيحية»، بما يضمن له الحصول على حصّة مقاعد الطائفة كاملة في منظومة التحاصص الطائفي، ومن دون مشاركة الأحزاب الأخرى كالقوات والكتائب وتيار المردة. إلا أن حصول «القوات» على 15 نائباً. وحصول «الكتائب» على ثلاثة مقاعد. ورجحان تشكيل «المردة» (3) وفريد هيكل الخازن ومصطفى الحسيني (كسروان – جبيل) وإبراهيم عازار (جزين)، كتلة. باتت هذه الحصص، تُساوي مجتمعة حصة التيار الوطني وحلفائه في تكتل لبنان القوي.
الاستفادة من الدروس
أمّا الهدف الثاني، فهو محاولة محاصرة رئيس المجلس النيابي نبيه بري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، عبر القضم من حصصهم، فضلاً عن الفوز بمقعد جبيل المُخصّص للطائفة الشيعية، بما يُمهّد لتقديم «التيار» مُرشحه لرئاسة المجلس النيابي، من باب تسجيل الأهداف في مرمى بري. وهو ما فشل «التيار» في تحقيقه. في تصريح له أمس بعد الانتخابات، غمز بري من قناة الوزير جبران باسيل بقوله إنّ «المنتصر الأكبر في هذه الانتخابات هو من يريد أن يستفيدَ من الدُّروس التي أعطتها هذه الانتخابات»، مشدّداً على أنّ «محاولات الهيمنة لا تفيدُ كما الطرح الطائفي والمذهبي والاستعلائي لا يفيد، أما الطرح للعيش المشترك فهو الحاصل الانتخابي»، بما يحمل رسالة واضحة بضرورة التواضع أو الإقصاء بعد تشكّل حصّة «مسيحية» تضاهي حصّة «التيار» ولديها شرعية شعبيّة، وهو ما يعدُّ ضربة لشعار «العهد القوي».
في المحصلة، لا بد لكل اللاعبين الموارنة في دائرة كسروان وجبيل إعادة النظر في الكثير من العناوين، وأيضاً إعادة ترتيب البيوتات الداخلية. الشعارات لم تعد كافية وحدها. نموذج «الإبراء المستحيل» وترجمته بمبايعة سعد الحريري وكيف يكون أول قرار للعهد هو تجديد ولاية حاكم المصرف المركزي، ومن ثم تبني الخيارات الاقتصادية نفسها بدليل الزحف البرتقالي إلى باريس 4 بكل مندرجاته الاقتصادية والمالية، من دون إغفال بعض الخيارات الانتخابية التي تركت أثراً سلبياً، خصوصاً أنها لا تشبه إلا منظومة الفساد… والأمثلة متعددة من المتن إلى زحلة مروراً بجزين.