أن يتحدّث أحد كبار المسؤولين في محور الممانعة أن «لبنان مقبل على كارثة حياتيّة» في إطار توصيف الواقع المزري الذي وصلت إليه البلاد، فهذا يعني وكأن الحزب الذي ينتمي إليه هذا المسؤول «غير مسؤول» عن تدهور الأوضاع اللبنانيّة على المستويات الإقتصاديّة والاجتماعيّة والمعيشيّة.
ليس المطلوب من الأطراف السياسيّة، لا سيّما تلك التي تتمتّع بفائض القوّة وهي قادرة على تغيير مسار الأمور في لبنان أن تذهب إلى تذكير اللبنانيين بواقعهم الكارثي، بل المطلوب منها الإقلاع عن سياساتها التي أدّت- بالتكافل والتضامن- مع حلفائها للوصول إلى الوضع الراهن.
تعتقد بعض الجهات السياسيّة اللبنانيّة أن تاريخ البلاد قد إنطلق معها، وأن النضالات السابقة لتأسيسها ودخولها جنّة الحكم من قبل أطراف أخرى لا تعدو كونها مجرّد حقبات زائلة بإمكانها أن تعيد صياغتها وتشويهها، إما من خلال إحتكار الانتصارات والانجازات أم من خلال تقديمها إلى الرأي العام بما هو مغاير لحقيقتها وطبيعتها.
التحرير من الاحتلال الإسرائيلي يحتل طليعة هذه اللائحة، على سبيل المثال. إذا كان من غير المنطقي إنكار الجهود التي أدّت إلى تحرير الجنوب وإنسحاب إسرائيل دون قيد أو شرط ودون توقيع إتفاقيّة سلام؛ فإنه من غير المنطقي أيضاً إنكار جهود الأطراف الأخرى التي أطلقت حركة مقاومة الاحتلال بإمكانيّات محدودة بشريّاً وعسكريّاً وماديّاً.
ثمّة قوى سياسيّة لبنانيّة لها تاريخها النضالي وقد سعت من خلاله لتغيير الواقع المتردي الذي لطالما عانى منه اللبنانيّون بسبب الطبيعة الطائفيّة والمذهبيّة للنظام، التي ميّزت بين اللبنانيين وصنفتهم درجات وفئات متفاوتة في الحقوق السياسيّة وغير السياسيّة. لم تفلح كل محاولات إصلاح النظام من خلال تجاوز الحالة الطائفيّة المتجذرة في المجتمع والتي تغلغلت إلى كل مفاصله وأصبحت هي السمة الأساسيّة لإدارة شؤون البلاد ودون أي إعتبار بطبيعة الحال للصفة الموقتة التي نصّ عليها الدستور.
لقد أصبح واضحاً بما لا يقبل أي إلتباس ذاك المصير الذي سيؤول إليه لبنان مع سطوة الأطراف التي تفاخر بفائض قوتها. المصير ذاته الذي تعيشه دمشق وبغداد ومعظم أرجاء اليمن. بيروت لم تعد ذاتها. يلف شوارعها الظلام، ويسكن الصمت مسارحها. غابت تلك المسحة الثقافيّة المتنوعة التي كانت ميزة أساسيّة في هذه العاصمة العربيّة، عاصمة الكتاب والنشر والتأليف. حتى معرض بيروت العربي للكتاب شُوّه دوره وموقعه ورسالته في ظل مقاطعة عربيّة غير مسبوقة لأعماله.
لقد إستبيحت البلاد تحت مسمّيات مختلفة تارة الممانعة، وتارة أخرى المقاومة وما بينهما دُجّنت الحياة الوطنيّة والسياسيّة وصودر القرار السيادي المستقل الحر، واستلحق لبنان بمحاور الظلاميّة والإنغلاق، بما يناقض تاريخه القديم في الإنفتاح والعروبة والتقدّم.
لم تعد تلك الشعارات البراقة الرنانة تنطلي على الغالبيّة الساحقة من اللبنانيين، وهم الذين سئموا الهبوط إلى القعر والغرق في حسابات الأطراف التي لا تقيم وزناً أو إعتباراً للمصلحة الوطنيّة اللبنانيّة العليا، ولا تكترث لشؤونهم إلا بالخطابات على المنابر وبإلقاء المواعظ والدروس وتصنيف المواطنين بين أسياد وعبيد.
ليس هناك من أسياد وعبيد في تصنيف اللبنانيين، وإذا كان هناك ممن هم من غير الأسياد، فإنهم أولئك الذين ينفّذون الأجندات الخارجيّة تحت مسمّيات عقائديّة حيناً ومسمّيات سياسيّة حيناً، والنتيجة واحدة: إرتهان تام وإختطاف سائر اللبنانيين للارتهان معهم. من قال ان البقية الباقية من اللبنانيين (ممن لم يهجرهم «العهد القوي») تريد الانسحاق والالتحاق بهؤلاء؟ من قال أنهم لا يبحثون عن مستقبل مختلف عمّا يُخطط لهم في هذا المجال؟ ألم يحن الوقت للتحرر من العبوديّة السياسيّة والانعتاق من أغلالها؟