السرعة الخاطفة التي عُيّن فيها وزير الخارجيّة الجديد ليحلّ محلّ الوزير المستقيل، لا بل تسريب إسم المرشّح البديل، حتّى قبل أن يُقدّم الوزير الأصيل استقالته، يؤكّد أنّ رغبة الأطراف السياسيّة الداعمة للحكومة باستكمال مُخطّطها للسيطرة على كلّ مفاصل البلاد لا عودة عنها، وأنّها تسير في ذاك الإتّجاه من دون هوادة، وهي أصبحت على أتمّ الإستعداد للإطاحة بكلّ ما يقف في طريقها ليحول دون ذلك.
كما أنّ السرعة التي تحرّكت فيها المرجعيّات الرسمية المعنية بتعيين البديل، وبعثت برسالة إلى كلّ الوزراء الذين قد “تُسّول لهم” أنفسهم أن يقفزوا من المركب الغارق قبل فوات الأوان، مفادها أنّ البدائل جاهزة ومتوفّرة دائماً، وأنّ لوائح المستوزرين والطامحين بالدخول إلى جنّة الحكم (ولو أنّها أصبحت أكثر شبهاً بجهنم بفِعل الأداء السيّئ للعهد والحكومة) هي لوائح طويلة، وفيها ما هبّ ودبّ من الأسماء المغمورة المُستعدّة لتقديم الطاعة وتنفيذ التوجيهات من دون مناقشة أو تحفّظ ! أتذكرون الأشهر الطويلة التي كان يستغرقها تأليف الحكومات بسبب العِناد السياسي والإصرار على تسمية شخص ما دون سواه، وإلّا “عمرها ما تكون حكومة، كُرمى لعيون صهر الجنرال”؟
إذا دلّت الإستقالة وما تلاها من خطوات على شيء، فهي تدلّ على أنّ الفريق الحاكم، في كلّ أدائه من خلال الحكومة المسِخ التي يدعمها، لن يتوانى عن التمسّك بناصية القرار اللبناني وِفق أجندته (سواء كانت إقليمية شاسعة أم محلية فِئوية ضيّقة)، وِوفق مصالحه التي لا تُقيم إعتباراً للتوازنات الداخلية، أو لِموازين القوى التي يُمعن في إخلالها، ضارِباً عرض الحائط كلّ المفاعيل التي يولّدها هذا التلاعب، الذي يأخذ طابعاً صبيانياً في بعض الأحيان، وطابعاً أكثر عُمقاً وخطورة في أحيان أخرى.
إنّ الشراهة التي قاربت فيها بعض القوى السياسيّة ملفّ التعيينات، على سبيل المثال، وتوّجها رئيس الجمهوريّة بخطوتي الإمتناع عن توقيع التشكيلات القضائيّة وردّها، وكذلك ردّ القانون الصادر عن مجلس النواب الذي يُحدّد آليات التعيين؛ إنّما تؤكّد، بما لا يقبل الشك، أنّ ليس ثمّة نية مُطلقاً بالخروج من المُمارسات الخاطئة، لا بل هناك سعي حثيث لتكريسها، طالما أنّها تتلاءم مع حسابات القوى التي ترهن الحكومة لإراداتها.
المِثال الآخر الأكثر إبهاراً يتّصل بملفّ الكهرباء والإصرار على إبقاء اللبنانيين في الظلمة. فالتعديل الذي أقرّته الحكومة، بعد توبيخها على الأرجح مِمّن يدّعي دعمها، لإقرار إنشاء معمل سلعاتا، إنما يُقدّم دليلاً جديداً على أنّ الذهنية المصلحية التي تحكّمت وتتحكّم بشؤون البلاد والعِباد، باتت أكثر استشراساً لتحقيق مصالحها المباشرة، بمعزل عن المصلحة العامة. فلا حسيب ولا رقيب يردعها عن القيام بذلك، وهذا ما يجعلها تكشف عن وجهها البشِع، إنّما الحقيقي.
ماذا يُمكن القول عن المفاوضات المُتعثّرة، إن لم نقُلْ الفضائحيّة، مع صندوق النقد الدولي التي تدور في حلقة مُفرغة؟ أغلب الظنّ أنّ خبراء الصندوق يُقهقِهون ضاحكين عند إطفاء الكاميرات مع الوفد اللبناني، كأنّهم كانوا يشاهدون فيلماً كوميدياً طويلاً! إنّها البراعة اللبنانية في التدمير الذّاتي! ألم يسبق لوزير الخارجية اللبنانية السابق (الذي حطّم كل علاقات لبنان الخارجيّة بالمناسبة) أن اقترح على واشنطن ولندن التعلّم من لبنان كيف يتدبّر أموره، من دون إقرار موازنات ماليّة؟
في الخامس من آذار 1962، كتب كمال جنبلاط في جريدة “الأنباء”: “الفرق شاسع بين السياسي ورجل الدولة”. عندما تلتقي النرجسيّة مع الصبيانيّة، إعرفوا أنّ الخراب آتٍ لا محال.