هناك إصرار من قبل دولتنا العلّية، على البقاء في حالة التخبط والضياع، والإبقاء على أوضاع الإنتماءات الإقليمية والدولية المختلفة، وآخر ما تتم مراعاته في هذا الإطار هو تحقيق المصلحة اللبنانية المتمسّكة بوحدة هذا الوطن، أرضا وشعبا ومؤسسات، بكلمته الواحدة وموقفه الوطني الموحد. إصرار تبدّى في المرحلة الراهنة بموقف وزير الخارجية اللبناني، أكبر الوزراء سنا وأمشقهم قامة في الحياة العامة، وأكثرهم تمرّسا سياسيا وخبرة دبلوماسية. وما إن صدر ذلك البيان المدين للغزو الروسي لأوكرانيا، والحاصل «مبدئيا» على موافقة رأس السلطة الحاكمة المتمثلة بالعهد القوي، وباستفاقته في نهاية أيامه وتراجع شعبيته والإنتقال شبه المفاجيء، إلى مرحلة المُطالبة والموقف المهاجم لأهداف سياسية واهتزازات شعبية في محيطه وفي إطار توجهاته المتلاحمة مع الحزب القوي، فضلا عما يشاع ويقال عن الموافقة عليه من قبل رئيس الحكومة… ما إن تمنطق المتحدثون باسم الشعب اللبناني وحكمه وحكومته بما قيل عن أسباب مبدئية تتخذ موقفا حادّا من الصراع الروسي- الغربي الذي تطور مؤخرا إلى حرب متأججة واسعة الأطر والإستهدافات، وكان من المنتظر تجاه تطوراتها وملابساتها، أن يكون الموقف اللبناني منها، هادىء التعبير والوقع والأثر، ذلك أن نزاعا وصل إلى حدود التهديد بالمجابهة النووية، يبقى في إطاراته الملتهبة القائمة والمتطورة إلى حدودها وأصولها واستهدافاتها الدولية، شأناً بالغ الخطورة، حافلا بالخلفيات الساعية إلى الإمساك بخيوط العالم ومستقبل الغد الذي باتت ملامحه القائمة تبدو واضحة المعالم، مثل هذا النزاع، رغم ما يستدعيه من قبل بلد صغير منمنم المساحة والإمكانات «مهما نفش ريشه وفاخر الممسكون بمعظم زمامه بقدراتهم العسكرية القائمة والمستجدة والمتطورة، فليس من المسموح اللجوء إلى وقف التحسب والترقب ومراعاة الصالح اللبناني العام بعيدا عن دويّ المجابهات والمواجهات السياسية والطموحات المناطقية والتي تنذر في كلِّ وقائعها واحتمالاتها بأفدح الأخطار المترامية بأضرارها المتوقعة على مدى العالم بأسره، من هنا، فإن البيان اللبناني الرسمي قد أثار جملة من المواقف المحلية التي تمسّكت بغالبيتها المتمترسة في حكومة ما زالت تائهة بحثا عن مواقف ومقررات تماشي مجمل المطالب الوطنية والسياسية بحدودها الدنيا الرافضة للمواقف المنحازة إلى أيٍّ من الأطراف التي قسمت العالم إلى جبهتين لا يتورع أي منهما عن انتهاج المواقف المبالغة في حدتها وفي تطرفها، وها هو لبنان «الصغير» يبرزه بيان معالي وزير الخارجية، بأجنحة بالغة الحجم والرّفيف والإنتشار، متخذا مواقف قيل أنها حازت على رضى وموافقة الرئيسين عون والميقاتي، حتى إذا ما تمّ نشرها واتضح حجمها المنمنم ووقعها المحدود، ها هم الذين تبنوها وواكبوها وأبرزوها للرأي العام المحلّي والإقليمي والدولي، يسارعون إلى إنكارها والتنصل من أي دور لهم في اتخاذ القرار المتبني والمؤيد لها، تاركين معالي وزير الخارجية العتيد، يتخبط في مياهها العكرة، محاولا لملمة آثارها بقدر ما يمكنه الواقع المترجرج من الحركة والتمدد، حتى الجهة ذات العلاقة المباشرة بهذا الموضوع القارس، والمتمثلة بالدولة الروسية التي طاولها النقد القارس، عمدت إلى لملمة غضبها إلى أقصى الحدود، مقدرة للموقف اللبناني تناقضاته وحالات التخبط والضياع التي جعلت من حكومتنا القائمة، حكومة «كلّ مين إيدو إلو»، وأن الحكم على تصرفاتها يستدعي الأخذ بعين الإعتبار مواقع نشأتها وتكوينها وظروف عملها في الأجواء اللبنانية القائمة التي تأتّت من حكومة الإمتناع والتمنع عن اتخاذ القرارات الموحدة، بل كانت في كثير من وجوهها الظاهرة، قناعا تختبيء فيه وفي خلفياته وحقيقة مواجهاته ومجابهاته، جملة من المواقف والتوجهات يختبيء بعضها بمواقف الآخرين، وإذا بالأيام تمضي والظروف شبه الملائمة تمر، ولكن النتائح تتسرب إلى الوجود، لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، إلاّ لما يُسمح لها تسريبه من المواقف الملائمة للحكم الحقيقي القائم، وتقلبات الأوضاع في داخله ومن حوله.
وبعد: موقف وزير الخارجية، هل كان موقفا مجّانيا ضاع في إطارات وأجواء الضياع القائمة؟ كثيرون من أولي الرأي يؤكدون: فتشوا عن المستفيد… لعل في الذي كان بعض من التصرّف الرامي إلى استرضاء من في أياديهم قرارات الوضع على القوائم السوداء، وإمكانية صدور قرارات لاحقة عنهم معدّلة أو ملغية، تعيد إلى الطموحات العائلية والشخصية مجالات جديدة ومفيدة.