يرتفع عدد السفارات اللبنانية الشاغرة في العالم بعد إحالة دبلوماسيين على التقاعد، بالتزامن مع انتهاء المدّة القانونية لشغل دبلوماسيين آخرين (من الفئتين الأولى والثانية) مواقعهم في الخارج، واستحقاق «نقل» دبلوماسيين من الإدارة المركزية إلى البعثات الدبلوماسية. الحاجة ضرورية إلى إجراء تشكيلات عامّة، تُراعى فيها المعايير المهنية وليس الطائفية أو السياسية، تُساهم في تعزيز موقف لبنان أمام مراكز القرار الدولية. ولكن، بين محاولات دبلوماسيين لتطيير التشكيلات والتحجّج باستقالة الحكومة، يُعالج هذا الملفّ بلامبالاة
إذا كان يُفترض بالسلك الدبلوماسي أن يكون «مرآة مُجتمعه» في الخارج، فإنّ الخارجية اللبنانية تُمثّل خيرَ انعكاسٍ للجمهورية: فراغ بعثات، تراخي دبلوماسيين، اهتراء إداري، غياب الموقف… جسدٌ متآكل قابلٌ للسقوط في أيّ لحظة إن لم تنطلق ورشة تأهيله سريعاً. ما تُعانيه «الدبلوماسية» ليس مُشكلة ظهرت فجأة، بل امتداد لسنوات من التفكّك، بلغت ذروتها أخيراً مع ترسيخ البُعد الطائفي والولاء السياسي في التعيينات والترقيات، بهدف إنتاج سِلكٍ يخدم مصالح «رعاته» السياسيين في الخارج، وليس لبنان. عديدةٌ هي مكامن الخلل في الإدارة، وأعمق من أن تنفع معها العلاجات الموضعية. قد يكون أهمّ ما تبرز الحاجة إلى تصحيحه، هو استعادة الدور والشروع في رسم سياسة لبنان الخارجية، وتقديمها إلى السلطة التنفيذية لتبنّيها. ولكن أيضاً، ومن ضمن السياق نفسه، تحتاج الإدارة إلى إعادة هيكلة الكادر البشري، وتعزيز الحضور الدبلوماسي في العالم، عبر إقرار التشكيلات الدبلوماسية.
11 سفارة لبنانية شاغرة في العالم (الولايات المتحدة الأميركية، البرازيل، أبيدجان، سيراليون، الكويت، قطر، أندونيسيا، باكستان، اليونان، الأردن، الكونغو)، وقريباً تنضم إليها سفارة لبنان في دمشق مع إحالة السفير سعد زخيا على التقاعد.
9 سفراء (رامي مرتضى – لندن، سليم بدّورة – جنيف، جوانا القزي – بودابست، رنا المقدّم – بوخارست، طوني فرنجيّة – تونس، رلى نور الدين – برن، ميليا جبّور -بكين، سامي النمير – مكسيكو، ألبير سماحة – مسقط) أتمّوا المدّة القصوى للبقاء في الخارج والمُحدّدة بحسب المادة 22 من قانون الوزارة بعشر سنوات، وبالتالي تجب إعادتهم إلى الإدارة المركزية.
8 دبلوماسيين ينتمون إلى «الفئة الثانية» (ديما حدّاد – الخرطوم، سامي حدّاد – داكار، هادي جابر – صنعاء، مايا داغر – يريفان، ميلاد نمّور – المنامة، قبلان فرنجية – بريتوريا، رينا شربل – وارصو، أنطوان عزّام – سيول)، ومُعيّنين في مراكز خدمتهم «بلقب سفير»، تخطّوا المدّة القصوى لبقائهم في الخارج وهي سبع سنوات، وأيضاً يجب أن يعودوا إلى لبنان. وتبقى مُعضلة السفير ريّان سعيد من دون حلّ منذ عام2017، بعد أن طلبت الكويت من لبنان عدم إرسال أوراق اعتماده، بسبب انتمائه الطائفي. لا يزال سعيد يُداوم في بعثة لبنان لدى الأمم المتحدة في جنيف، التي يرأسها حالياً السفير سليم بدّورة، فسجّلت الدولة اللبنانية سابقة تعيين سفيرين في بعثة واحدة!
جوقة ترحيل التشكيلات لا تزال أقوى، مُستفيدةً من استقالة الحكومة
في المقابل، ينتظر 12 سفيراً يشغلون مواقع إدارية في وزارة الخارجية والمغتربين، دورهم «القانوني» لتسلّم بعثات دبلوماسية في الخارج، بين هؤلاء من لم يسبق له بعد إدارة سفارة. بالإضافة إليهم، يُتمّ في تموز المقبل 17 دبلوماسياً – مُوزعين بين الفئتين الثانية والثالثة – مُدّة خدمتهم القانونية داخل الإدارة المُحدّدة بسنتين، بالتالي يفرض القانون تعيينهم في مراكز خارجية.
منذ أيام الوزير السابق ناصيف حتّي، «طُيّرت» محاولات إجراء مناقلات دبلوماسية. قاد الجبهة يومها سفراء «طامعون» بالبقاء خارجاً، لأسباب شخصية، من دون أن يحسبوا تأثير سلوكهم على مُستقبل السِّلك. وقد رَضخ لهم «صنّاع القرار» داخل الوزارة، تحديداً التيار الوطني الحرّ، و«سايرتهم» في الموقف حركة أمل التي فضّلت في حينه تهدئة الجبهة مع «التيار» وعدم التمسّك بتشكيلات قد تؤدّي إلى توتّر بينهما «ببلاش». آخر تشكيلات صدرت في تموز 2019، ما عَكس يومها احترام الإدارة للمُهل القانونية. المفارقة أنّه في تلك المناقلات، كان يُفترض عودة الدبلوماسيَّين زياد عيتاني (ملبورن) وعبد العزيز عيسى (الإسكندرية)، ولكن لم تصدر قرارات التحاقهما بالإدارة ولا يزالان في الخارج.
عدم تنفيذ التشكيلات خرقٌ للقانون وغُبن وإجحاف بحقّ دبلوماسيين
حالياً، تشتد الحاجة إلى إجراء التشكيلات لأسباب عديدة، أهمّها: عدم مخالفة القانون، وتعزيز حضور لبنان في المراكز العالمية الرئيسية. وهناك أيضاً داخل الوزارة من يعتقد أنّ التشكيلات قد تُساهم في تنفيس الاحتقان المتعاظم بين الأمين العام السفير هاني شميطلي من جهة، والسفيرين غدي خوري (مدير الشؤون السياسية) وكنج الحجل (مدير الشؤون الإدارية والمالية) من جهة أخرى، وهو التوتر الذي بدأ يتمدّد وينعكس على أجواء العمل والعلاقات بين الدبلوماسيين. إلا أنّ جوقة ترحيل التشكيلات لا تزال أقوى، مُستفيدةً من استقالة حكومة حسّان دياب، وتسارع الانهيار المالي، وطلب «ترشيد» موازنة وزارة الخارجية والمغتربين، لتعزيز الموقف بأنّ ملفّ التشكيلات ليس أولوية في ظلّ الأوضاع الراهنة. بالنسبة إلى الوزير شربل وهبة، فقد صرّح لمحطة «أم تي في» قبل أيام بأنّه يجب «في أسرع وقت تعيين السفراء، ولكنّ الأمر يستدعي تشكيل حكومة. هناك دبلوماسيون في السفارات (التي شغرت) والأعلى رتبة بينهم يتسلّم مهامّ الوزارة بانتظار تعيين سفير». اعترف بأنّه من الأفضل أن يُدير المهمة – تحديداً في الولايات المتحدة الأميركية – «سفير قُدّمت أوراقه رسمياً، لا قائم بالأعمال، ولكن واشنطن تعرف ظروف لبنان».
فهل يصحّ فعلاً التذرّع بغياب الحكومة لنسف التشكيلات؟ «لنفترض أنّ حالة تصريف الأعمال استمرت سنوات عدّة، هل تُترك السفارات فارغة؟ هذه من الضرورات»، يُجيب الوزير السابق عدنان منصور، مُعتبراً أنّه «لا مانع من إصدار مراسيم جوّالة بإجراء التشكيلات، وحين تتشكّل حكومة تُرسل أوراق اعتماد المُنتمين إلى الفئة الأولى (تعيينات الفئة الثانية تتم بقرار من الوزير، أما الفئة الثالثة فبقرار من الأمين العام)». بالنسبة إلى الدبلوماسي المُتقاعد، «القانون أعلى من الجميع. وقانون الخارجية ينصّ على أن يعود من الخارج من أمضى 10 سنوات (للفئة الأولى) و7 سنوات (للفئة الثانية)، وأن يُعيَّن في البعثات الدبلوماسية من أمضى سنتين في الإدارة». بوجود دبلوماسيين قد مضى على وجودهم في الخارج أكثر من عشر سنوات، «يكون القانون قد خُرق بشكل فاضح، ومورس غُبن وإجحاف بحقّ دبلوماسيين آخرين».
تأثير الفراغ على البعثات «كبير. نمرّ في البلد بوضع حسّاس، مفروض أن ننقل وجهة نظرنا إلى العالم عبر السلك الدبلوماسي. الدول التي تحترم نفسها لا تُعالج هذا الملفّ بلامبالاة». وهذا سيؤدّي أصلاً «إلى تراجع العمل الدبلوماسي في الخارج. وزارة الخارجية هي واجهة أي بلد. فإمّا أن تعود الخارجية لتُمارس دورها، وإمّا بلاها».