IMLebanon

مَزْجُ اللبناني للّغات: “بريستيج” أم انتداب فكري؟

 

 

قُل لي بأي لغة تتكلّم… أقُل لك من أنت 

«بدّي عذبك… Jus d’orange, Please». عبارات ثلاث. «كليشه» ممجوج. لكنه معبّر لاختصاره حالة لبنانية بامتياز. فقاموس الألفاظ الأجنبية عند اللبنانيين – الشباب منهم خاصة – والمتداخل بـ»خلطة سحرية» مع الألفاظ العربية يتخطّى أحياناً المعقول. طبعاً، أمثلة هذا التلاقح اللغوي أكثر من أن تُحصى. والأخطاء التي تعتري هنا وهناك بناء الجمل والدلالات كثيرة هي الأخرى. لكن ما علينا. فالميزة «صُنعت في لبنان» بكلّ فخرٍ، بالنسبة للبعض. وهي تجسيد لمَثَل «الطربوش المعلّق برأس التوتة»، للبعض الآخر.

إذا كانت اللغة، كما يؤكّد أهلها، هي فنّ التواصل وقدرة الإنسان على التعبير عن رأيه بشكل مثالي، فهي حتماً انعكاس لتاريخ وانتماء وذاكرة شعب وأساس حسن جوار وتعاطٍ. لغتنا العربية لغة عالمية. بها ينطق أكثر من 422 مليون إنسان حول العالم، وهي إحدى اللغات الرسمية الست للأمم المتحدة. عدد مفرداتها وكلماتها وجذورها اللغوية يزيد عن اللغات الأساسية الأخرى- إنكليزية، فرنسية وغيرها – بالملايين. ثم إن اختلاف اللهجات باختلاف البلدان والمناطق أمر طبيعي. اللهجة اللبنانية – وهذا بيت القصيد – لا تشذّ عن القاعدة، لكن مع جرعة انفتاح زائدة على لغات ما خلْف البحار.

 

الجرعة تلك تخلق إشكالية تضع تدمير الثقافة والتراث المحليّين في وجه إنماء الثقافة والفكر الأجنبيّين. وثمة من يرى في الإشكالية معضلة جدّية. فكيف يفسّر عِلم النفس والاجتماع والألسنيات أسباب ذلك وما انعكاساته على مستقبل الهويّة والثقافة اللبنانيّتين؟

 

في مرمى الهجمات

 

البداية مع الأستاذة الجامعية والدكتورة في علم الاجتماع، عايدة الخطيب، التي اعتبرت في حديث لـ»نداء الوطن» أن المشكلة تبدأ حين تُعدّ اللغة مجرّد وسيلة تعبير لا أكثر. «تتراجع اللغة الأساسية لدى كافة الشعوب وليس فقط في لبنان، وذلك بسبب الهجمات الإلكترونية للّغات الأجنبية ولكلمات ليست موجودة أصلاً في قاموسنا. فيستسهل الفرد استخدام اللغة اليومية مثل لغة الدردشة (Chatting) ومواقع التواصل الاجتماعي». لكن هذا الواقع لم يأتِ من فراغ إذ، بحسب الخطيب، يقف وراءه مخطط دائم تعمل عليه جهات لإلغاء فكرة الوطن والحس الوطني واعتبار اللغة وسيلة لا أهمية لها. وتضيف: «نعيش في لبنان حالات انتداب فكري امتدّ من أيام العثمانيين إلى الفرنسيين مروراً بقدوم الإرساليات الأجنبية منذ العام 1840. والانتداب الفكري أخطر بكثير من نظيره العسكري لأنه يدوم لسنوات وقرون ولا يمكن التخلّص منه بسهولة».

 

أبرز الأسباب التي تقف وراء ميل اللبنانيين إلى اعتماد اللغات الأجنبية على حساب لغتهم الأم هو تحوّل المدارس إلى صروح لتدريس اللغات الأجنبية. وفي الطليعة تأتي الفرنسية التي كانت وما زالت تُعتبر لغة سامية منذ زمن الانتداب، والإنكليزية بعد تعاظُم دور الدول التي تنطق شعوبها بها. هذا إضافة إلى أن لبنان – البلد الصغير – لا قدرة له على استيعاب كافة خرّيجيه، ما يجعل الطالب مضطراً لتعلّم لغات أخرى لإيجاد فرص عمل في الخارج. هنا تصبح اللغة أصدق تعبير عن هذه الحالة الشاذة من حيث الطريقة والسهولة، خاصة أن هناك نقصاً واضحاً في تعريب الكلمات الأجنبية لا سيّما تلك المستخدَمة في عالم الكمبيوتر والتكنولوجيا. فالمشكلة متشعّبة: تربوية، ثقافية، علمية ومجتمعية. الخطيب ناشدت بوضع خطط وقوانين لإعادة إحياء لغتنا الأم خاصة وأنها باتت من أكثر اللغات تراجعاً. مثلاً، كنقطة انطلاق، يمكن احتساب علامة اللغة العربية ما دون الوسط كعلامة لاغية. «هويتنا عربية ولغتنا الأم هي العربية… يجب أن نفتخر بها أسوة بباقي الشعوب التي لا تقبل التحادث إلا بلغّتها الأصلية. لا مشكلة لدينا مع تعلّم وتعليم لغات أخرى شرط الحفاظ على العربية منعاً لمزيد من الانتقاص من قيمتها تجاه الشعوب الأخرى».

 

اللّغة أحاسيس ومشاعر

 

الإختصاصية في علم النفس، الدكتورة كارول سعادة، تعزو بدورها السبب إلى عوامل خارجية تتعلّق بحياة الفرد وأخرى داخلية مرتبطة بحالة اللاوعي لديه. هناك الكثير ممّن تعلّموا المصطلحات الأجنبية في المدارس والجامعات فتحوّل استخدامها عندهم إلى عادة، يردّدونها وكأنها جزء مندمج باللغة الأم وبحياتهم اليومية. وهنا تمسي العادات الاجتماعية، التي تختلف بحسب المناطق، السبب الرئيسي الكامن. «لكن هناك أيضاً أسباباً لاواعية تجعل البعض يرفض بشكل جذري التكلّم باللغة الأم باعتبارها لا تعبّر عن مقام أو مستوى ثقافي معيّن. وهنا نتحدّث عن نكران الإنسان لأصله وحياته وانتمائه الوطني ولغته»، كما تضيف سعادة.

 

سبب آخر لفتت إليه وهو سَعي بعض الأهل، منذ ولادة الطفل، للتواصل معه بلغات أجنبية متجاهلين أن اللغة الأم هي ما يُفترض أن يتعلم من خلالها الولد التعبير عن مشاعره ورغباته ومخاوفه وإيصال أفكاره. «نحن نعلم أن الكلام هو الجزء الأقل من الفكرة التي يجب إيصالها. فهناك الأشياء التي لا تقال (Le non-dit)، وهي عبارة عن العاطفة والمشاعر والرموز التي لا يمكن للإنسان أن يعبّر عنها بشكل طبيعي إلّا بلغته الأم. أما اللجوء إلى لغة أجنبية فيوصل الرسائل بشكل مصطنع، ليتحوّل تعليم اللغة إلى نوع من التلقين أكثر منه تواصلاً بالأحاسيس». أما الطامة الأكبر فهي تلك التي يعاني منها أساتذة اللغة العربية. إسألوهم ويجيبونكم أن أبسط الكلمات العربية لم تعد واردة في قاموس الأجيال الحالية. فإلى الرأي الأكاديمي.

 

تهميش متعمَّد؟

 

أستاذة علم النفس في الجامعة اللبنانية وجامعة الجنان، البروفسورة رشا عمر تدمري، قالت في حديث لـ»نداء الوطن» إن الشباب – والمراهقين خصوصاً – يميلون إلى اللغات الأجنبية لأسباب متفاوتة. منها مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الترفيهية كما التطبيقات التي تعتمد على اللغات الأجنبية، فيألفها المراهق ويعتاد عليها كلاماً وكتابة. وهناك تركيز المدارس والأهل على التواصل مع الأولاد بلغات أجنبية، ما يجعل هؤلاء يتصالحون مع استخدام التعابير الأجنبية كمسألة طبيعية. أما الصورة الإيجابية التي يكوّنها الشاب أو المراهق عن نفسه حين يُدخل في حواره لغة أجنبية أو أكثر، فتمنحه مزيداً من الثقة ويعزّز تقديره لذاته مانحاً نفسه وَهْم المكانة الاجتماعية التي يبحث عنها. وهذا مردّه إلى رغبة بإشباع الحاجات الاجتماعية والشعور بانتماء أشدّ إلى المجموعات التي تستخدم اللغات الأجنبية نفسها في سياق حواراتها.

 

ثمة من يشكو هنا من صعوبة اللغة العربية وتعقيدات قواعدها. «لا شك أن لغة الضاد من اللغات الصعبة، وتحتوي قواعدها على تفاصيل كثيرة مقارنة بالإنكليزية مثلاً. والأمر نفسه بالنسبة للغة الفرنسية. فالأولى خاصة لغة سلسة وسهلة القبول من قِبَل الأطفال، خاصة من يميلون منهم إلى الألعاب الإلكترونية ويتفاعلون من خلالها مع أفراد من دول أجنبية لا انتشار فيها للغة العربية»، تجيب تدمري. ومع تزايد الانفتاح، توسّع العولمة وتفشّي وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحنا أمام «وطنٍ كبير» بديل – عبارة عن عالم افتراضي مفتوح لا يحدّه مكان أو زمان – ينتمي إليه المراهق. الإنتماء إلى الوطن والأرض لم يعد موجوداً كما في السابق. ثم إن السياسات التعليمية، وفق تدمري، راحت تهمّش التاريخ اللبناني وكل ما هو مرتبط بالوطن، ناهيك بالأزمات التي جعلت الشباب يبحثون عن مستقبل أفضل خارج الوطن ما يدفعهم للسعي خلف إتقان لغات أخرى.

 

عدوى المؤثّرين

 

بين الانفتاح وتصنّعه، تعتبر تدمري أن ما يحصل هو أشبه بعدوى مصدرها مجموعة من أصحاب التأثير الكبير أو الحضور المميّز. Idols، بعبارات أخرى. «قد يكونون فنانين أو مسؤولين أو رياضيين لهم جمهورهم. وكما هم يتصرفون، كذلك يقلّدهم الجمهور. بالنسبة لجيل الشباب والمراهقين، تُفسَّر الظاهرة بمحاولة الخروج من عباءة التقاليد لا سيما لدى رافضي الواقع والقيود والضوابط الاجتماعية، فنراهم يميلون إلى التحرر ظنّاً منهم، في لاوَعيهم، أن عدم استخدام لغة الأم والأب هو كسْر للقيود. كلما سعى المراهق إلى تأكيد ذاته والتمرّد على المجتمع وعاداته، كلما رأيناه يستبدل شخصيته بأخرى أو النمط السائد في بيئته بأنماط أخرى»، والكلام دوماً لتدمري. لكن تأثير التحوّل إلى اعتماد لغات أجنبية لا يطال الكلمات المحكية أو المنطوقة وحسب، إنما لغة الجسد والإيماءات المرافقة أيضاً. وللمظهر الخارجي حصّته إذ هو الآخر ينسجم مع اللغة (أو اللغات) المعتمَدة. وهكذا نلحظ تشابهاً يلامس التطابق أحياناً في الأزياء التي يرتديها هؤلاء وتسريحة شعرهم وسواها.

 

ولمن يظنّ أن الأمر يتوقف على المراهقين والشباب، فهو ليس كذلك تماماً. إذ يتعداه ليطال خطابات السياسيين محلّياً وخارجياً. ومتابعة البرامج الإعلامية، على تنوّع خلفيات الضيوف والمقدّمين، بغضّ النظر إن توجّهت لجمهور محلّي أو عربي، خير دليل على ذلك. ثم ما بالكم، مثلاً، بتسجيل حديث صحافي للنشر المحلّي تكون عبارات الضيف الأجنبية فيه هي الطاغية؟ «لا شك أن هذا الأمر مدروس. فإذا أردنا استقطاب فئة معيّنة، علينا التكلّم بالطريقة الأقرب لـ»ثقافتها». وحين يستخدم السياسيون أو الإعلاميون اللغات الأجنبية في سياق الكلام – سواء في جمل تامة الأركان أو مفردات أو تعابير- فهم إنما يحاولون استقطاب جمهور الشباب والمراهقين أكثر منهم الراشدين والبالغين. إنها طريقة لِجذب انتباه شريحة اجتماعية أو فئة عمرية محدّدة بهدف التأثير فيها. فالسياسيون هؤلاء، يبنون علاقة لاواعية مع الفئة المستهدَفة تتيح لهم في ما بعد توظيف هذا القبول للتسويق لأفكار وآراء». فمَن قال في نهاية المطاف إن مزج اللغات ليس أيضاً إحدى أنجع أدوات التسويق؟