IMLebanon

العاملات الأجنبيات في لبنان ينتظرن الفرج

 

بعضهن رُمين في الشارع وبعضهن حاولن الإنتحار

 

“أريد أن ينتهي هذا الكابوس”. بعبارة واحدة اختصرت صوفيا (اسم مستعار) ما تعيشه مؤخراً في لبنان. ملّت الشابة الثلاثينية تعداد الانتهاكات المتتالية التي ارتكبت بحقها في منزل مخدوميها. “لم أكن أتوقع أن تكون الخاتمة سيئة إلى هذا الحدّ”.

تختنق بدمعة تفرّ من مقلتيها، ثم تضيف: “لطالما حلمت أن يوم عودتي إلى وطني آثيوبيا سيكون يوم السعد. سأوضب أمتعتي على مهل، وأحمل في حقيبة يدي ألعاباً لأطفالي وألواح شوكولا لذيذة لطالما حلمت بأن يتذوقوها. تخيّلت أن سعادة عارمة ستغمرني وأنا أغادر منزلاً ترقرق فيه عرقي كما دمعي. لكن ذلك كله لم يحدث. أغادر مكسورة بعدما خرجت من المنزل طرداً، ولم أحمل معي أي شيء من أغراضي الشخصية”. ربّة المنزل لم تُمهل صوفيا وقتاً لتوضيب أغراضها. كان الأمر مدبراً، إذ حاولت التخلص منها بأبشع الطرق لكي لا تُضطر إلى دفع مستحقاتها المتراكمة منذ ما يزيد عن ستة أشهر.

أدركت صوفيا حقيقة الأمر منذ بدأت العائلة تعاني ظروفاً اقتصادية صعبة. تقول: “شعرت أن الوضع ليس على ما يُرام. شيئاً فشيئاً بدأت أفهم ما يحدث في لبنان، خصوصاً عندما أبلغوني أنهم لن يتمكنوا من دفع راتبي الشهري بالدولار الأميركي”. وتابعت: “لم أوافق فقالوا لي إن عليّ الانتظار ريثما يتغيّر أمرٌ ما. استشعرت بالخطر يتزايد إلى أن بدأت ربة المنزل تسيء معاملتي أكثر فأكثر. لم يتغيّر شيء حتى ذاك اليوم المشؤوم، حيث افتعلت السيّدة إشكالاً معي وبدأت بالصراخ في وجهي طالبة مني مغادرة المنزل”. تعود صوفيا إلى صمتها المبلل بالدمع، ربما تتذكر تلك اللحظات الأخيرة التي عاشتها في منزل خدمت أهله لقرابة الثلاثة أعوام. تضيف: “علمت في تلك اللحظة أن كل هذا يهدف للتخلص مني من دون دفع مستحقاتي. غادرت مكسورة وقصدت السفارة حيث أمكث الآن في المكان المخصص لاستضافة الرعايا الإثيوبيين بانتظار عودتي إلى دياري”. رغم حزنها الشديد، لم تعد صوفيا تكترث. جلّ ما تريده هو المغادرة والعودة إلى حضن الوطن والأهل والأطفال الذين غادرتهم إلى مصير لم يأت على قدر توقعاتها.

الشابة الأثيوبية تيغيست

 

ما تُعانيه العاملات الأجنبيات في لبنان لا مثيل له في أي دولة أخرى، فقد تضافرت عوامل عدّة مع بعضها البعض وحكمت عليهن بالمزيد من القهر والوجع. فبالإضافة إلى جائحة كورونا التي قيّدت الحركة في كل دول العالم ومنها لبنان، حيث أصبح احتكاك العاملات الأجنبيات مع العالم الخارجي شبه مستحيل، خصوصاً أن بعضاً منهن كنّ محرومات من رؤية الضوء بسبب إخضاعهن لأحكام نظام الكفالة اللاإنساني جاءت الأزمة الاقتصادية لتزيد الطين بلّة. إرتفاع سعر صرف الدولار وانهيار القيمة الشرائية لليرة اللبنانية أديا إلى عجز العديد من العائلات اللبنانية. ولا يُمكن أن ننسى ايضاً، أن جزءاً ليس بقليل من العائلات خسر أعماله بسبب إقفال العديد من الشركات أبوابها وتسريح العدد الآخر منها للكثير من الموظفين والأجراء. وكما تأثّر اللبنانيون، تأثر الأجانب العاملون في لبنان، وكانت حصة الأسد من نصيب العاملات المظلومات. فقد أصبح راتب العاملة الذي يُقدّر بـ250 دولاراً أميركياً يساوي حوالى 875 ألف ليرة لبنانية، على سعر الصرف ثلاثة آلاف وخمسمئة ليرة لبنانية للدولار الواحد (وهو السعر المعمول به حالياً لكنه مرجح للإرتفاع في أي لحظة)، وهو ما لا قدرة للعائلات اللبنانية على دفعه، خصوصاً أن هؤلاء يجنون أموالهم بالليرة اللبنانية وليس بالدولار.

حلول وسط

 

بعض تلك العائلات ضحّى مع العاملات لديه، والبعض الآخر ضحى بهن. الشابة الأربعينية، ندى طنوس مثلاً أصرّت على المحافظة على العاملة في منزلها. تقول: “رغم أن زوجي متقاعد وغالبية وقته في المنزل، وولدَيّ ليسا صغيرين، إلا أنني أحتاج وجود تيغيست إلى جانبي في المنزل، فأنا أعمل لوقت طويل في الخارج وأعاني بعض المشاكل الصحية، فضلاً عن أنني بت أعتبرها فرداً من العائلة، لذلك عندما وقعت الأزمة في لبنان صارحتها بما يحدث واتفقنا على أنني سأدفع لها راتبها بالدولار الأميركي طالما أنني لا أزال قادرة على شراء الدولارات من السوق، ولكن عندما أفقد القدرة على ذلك، سيكون الخيار بين يديها”، مضيفة: “أمام هذا الواقع الصعب تركت لها حرية الإختيار، فإما أن تبقى معنا ونخفّض راتبها قليلاً لكي نبقى قادرين على تزويدها به بالدولار، وإما تختار المغادرة إلى وطنها، فنحن الإثنتان متساويتان بالخسارة ونعيش تداعيات الأزمة بكل تفاصيلها”.

 

تيغيست، شابة أثيوبية سمراء، نحيلة القامة بشعر أسود قصير ووجه طفولي. يحبها الطفلان إسبر وإيلي، وقد اعتادا على وجودها في المنزل في غياب والدتهما. تقول الشابة العشرينية: “أحب هذه العائلة، وأعتقد أن الله أنعم علي بوجودي هنا خصوصاً أن هذه هي أول عائلة أعمل لديها منذ قدومي إلى لبنان. لا يمكن أن أنسى الرحلة يومها فقد أمضيت ساعات الطيران باكية وخائفة من المصير المجهول الذي أنا مقبلة عليه”، مضيفة: “سمعت الكثير عن معاناة فتيات بلدي هنا، ولا أزال أعاين ما يحدث لبعضهن حالياً في نشرات الأخبار، لذلك لا أشك بأنني محظوظة بعائلتي”.

 

وعن احتمال مغادرتها البلد تقول: “إلى الآن لا أزال أحصل على راتبي بالدولار ولكن ذلك يمكن أن يتغيّر في أي لحظة، ولذلك فأنا أتحضر نفسياً لسيناريوات أسوأ، كأن أغادر لبنان، ولكن ذلك يبقى أسهل بالنسبة لي من أن أحصل على راتبي بالليرة اللبنانية، فأنا هنا أعمل لأعين عائلتي هناك، وبالتالي فإن ما أجنيه بالدولار أرسله إليهم، لذلك فإن الليرة اللبنانية لن تنفعني بشيء”.

 

تتحدث تيغيس عن صديقتها راما التي كانت تعمل في منزل قريب منها. تقول: “منذ قدومي إلى تلك المنطقة في شمال لبنان علمت أن هناك شابة أثيوبية تعمل لدى منزل الجيران، فشعرت بالراحة كمن أزاح صخرة عن باب قلبه. تعرفت إليها وبتنا صديقتين، ولكن بسبب ما يحدث في لبنان استغنى عنها مخدوموها، وذهبت للعمل في منزل آخر، والآن لا أعرف شيئاً عنها”.

 

في انتظار يوم السفر

بعض العائلات اللبنانية تُبلّغ أصحاب مكاتب الاستقدام عن عدم رغبتها في بقاء العاملة لديها، ما يدفع المكاتب إلى التفتيش للعاملات عن أسر بديلة للعمل لديها. وبحسب نقيب أصحاب مكاتب استقدام العاملات المنزليات إلى لبنان، علي الأمين فإن “هذا القطاع يشهد فترة ركود مخيفة على عكس فترة الإزدهار التي عاشها لسنوات، فالهجمة حالياً ليست على طلبات استقدام العاملات الأجنبيات بل على طلبات إعادتهن الى المكاتب”، موضحاً أنه “وفقاً للأرقام، ففي كانون الثاني من العام 2018 استقدم لبنان 10000 عاملة، أما في العام 2019 فتراجع الرقم إلى 2500 عاملة ليصل اليوم إلى 1800 عاملة، ما يعني تسجيل تراجع بنسبة 80 في المئة”.

 

ويشير إلى أن “عدد العمال الأجانب الشرعيين يُقسم إلى أربع فئات، على الشكل الآتي: 182377 ضمن الفئة الرابعة (العاملات في الخدمة المنزلية)، 59606 يشكّلون الفئة الثالثة (العمال: في شركات التنظيف، في محطات البنزين، مزارع، بناء، حمّال…)، 1931 في الفئة الثانية (skilled مثل الطباخين…)، أما الفئة الأولى (أصحاب عمل) فتضمّ 3174 أجنبياً. وتُقسم فئة العاملات المنزليات إلى قسمين، العاملات اللواتي يعملن في ظروف قانونية، واللواتي يعملن بطريقة غير قانونية ومن كفيل ويتقاضين رواتب على الساعة”، مشدداً على أن “هذه الفئة تضررت بشكل كبير بسبب انخفاض ساعات العمل مع خوف العديد من الناس من فيروس كورونا، بالإضافة إلى تراجع الأسعار بسبب أزمة الدولار”.

 

الإجلاء هو الحل الأفضل

 

ويقول: “بات الحلّ الأفضل لمعالجة الأزمة الإنسانية التي تئن تحتها آلاف العاملات إجلاءهن من لبنان، لذلك انطلقت الترتيبات وعقدت الاجتماعات مع سفارات بلدانهن لهذا الغرض”. ووفقه: “كان من المقرر أن تبدأ المرحلة الأولى من عملية الإجلاء الأسبوع المنصرم إلا أن عدم التحضير بالشكل المطلوب من قبل الجهة الإثيوبية أدى إلى فرملة الرحلات”.

 

ويوضح أن “الدفعة الأولى من عملية الإجلاء خصصت لحوالى 600 عاملة من اللواتي يعملن في لبنان بشكل غير قانوني، أي من دون كفيل ومن دون إقامات قانونية، واللواتي سجّلن أسماءهن للمغادرة وكان من المقرر أن تقلع طائراتهن يوم الأربعاء الماضي، ولكن لم يتم ذلك بسبب عدم حجز أماكن لهن للحجر الصحي عند وصولهن وسيسافرن اليوم وغداً السبت”، مشيراً إلى أنه “تم الإتفاق في الدولة اللبنانية على إخضاعهن لفحوص الـPCR قبل صعودهن إلى الطائرات للقيام بمعالجة حاملات الفيروس في المستشفى قبل عودتهن إلى منازلهن، على أن تلتزم الأخريات الحجر المنزلي. أما المرحلة الثانية فهي للعاملات اللواتي لديهن كفلاء ولكن باتوا غير قادرين على دفع أجورهن، أو أن العاملات يرغبن في العودة، وهي الفئة الأكبر في لبنان، ولكن ليس هناك من إحصاءات أو أرقام دقيقة حول أعداد الراغبات منهن بالمغادرة”، ويحكى عن عشر رحلات تقريباً لكن لا تأكيدات نهائية في هذا الصدد.

 

وأشار الأمين إلى أن “واحدة من الإشكاليات الأساسية في هذا الملف تتعلق بارتفاع اسعار تذاكر الطيران، فمثلاً تحاول السفارة البنغلادشية التي لديها جالية كبيرة في لبنان، العمل على تأمين الرحلات لهن، لكنها تواجه عائق التوافق على سعر مقبول للتذاكر مع شركات الطيران، خصوصاً أن كفلاء العاملات هم المسؤولون عن دفعها، فعندما يتجاوز الـسعر 1500$ يُصبح من الأفضل لصاحب العمل، الذي يرزح تحت وطأة الضغوط الاقتصادية الصعبة، إبقاء العاملة لديه لبضعة أشهر في انتظار انخفاض تكاليف السفر”.

الجمعيات الحقوقية في المرصاد

 

بعض أصحاب العائلات بات يفضّل إبقاء العاملة على إعادتها إلى بلدها بسبب تكلفة الترحيل الباهظة الثمن، إذ إن أصحاب العمل مضطرون لدفع تكاليف حجز تذكرة السفر للعاملة وحجز الفندق لأنها ستكون بدورها مضطرة إلى التزام الحجر المنزلي قبل دخولها بلدها للتأكد من أنها لا تحمل فيروس كورونا.

 

وفي هذا الإطار، اعترضت جمعيات حقوقية على طريقة عمل الدولة اللبنانية في هذا الملف، معتبرة أنها أقصت أصحاب الجنسيات الأخرى عن لائحة اهتماماتها، علماً أنهم معرضون ايضاً لالتقاط الفيروس. في هذا السياق ناشدت حركة مناهضة العنصرية في بيان الحكومة اللبنانية من أجل شمل المقيمين غير اللبنانيين في خطط الاستجابة لفيروس كورونا من دون أي تمييز، وأكدت أن خطط الاستجابة الشاملة يجب ألا تكون خياراً بل هي ضرورة. وذكر البيان أن خطط الإستجابة لفيروس كورونا تستهدف اللبنانيين فقط. إلا أن الفيروس لا يستهدف أشخاصاً دون غيرهم استناداً إلى جنسيتهم أو وضعهم القانوني. وأكد البيان أن أي خطة استجابة لا تشمل غير اللبنانيين هي خطّة ناقصة وتضع جميع سكان لبنان، اللبنانيين وغير اللبنانيين منهم، في دائرة الخطر.

 

في السياق نفسه، أصدرت منظمة “كفى عنفاً واستغلالاً” دراسة أوضحت فيها أن “عدد وفيات العاملات الأجنبيات في لبنان يتزايد مع انتحار ثلاث منهن في شهر نيسان الفائت، وهو مؤشر الى سوء أوضاعهن والانتهاكات التي يتعرضن لها في أماكن عملهن”، مشيرة إلى أن “العديد من الإتصالات التي ترد على خط الدعم في المنظمة المخصّص للنساء ضحايا الإتجار، هي من أرباب عمل يبلّغون عن عاملات منازل حاولن الإنتحار، أو حاولن رمي أنفسهنّ من الشرفات، أو يُخبرون عن وضع نفسي صعب تعاني منه العاملة ولا يعرفون كيف يتصرّفون معها. ومنهم من يسأل ماذا يمكن فعله بموضوع الأجور وهم لا يملكون دولارات وعاجزون عن دفع بدل الدولار حسب سعر السوق. كما أن هناك إتصالات ترد من أفراد شاهدوا عاملات في الشارع في وضع نفسيّ سيئ للغاية”.

 

وأكدت الدراسة أن العاملات يعانين من إضطرابات نفسية تصل الى حدّ الهلوسة ومحاولت الإنتحار، خصوصاً مع لجوء بعض أرباب العمل الذين لم يعد بمقدورهم دفع مستحقات العاملة أو الذين لم يعودوا يريدون أن تبقى في منزلهم وتعمل لديهم، إلى طرق غير أخلاقية وغير قانونية، إذ وضعوا العاملة في الشارع، وقدّموا بلاغاً من بعدها بأنها هربت للحد من مسؤوليتهم، وآخرون أعلنوا بيعها.

 

وأوضحت المنظمة أنها تقدّمت إلى الأمن العام بطلب تسهيل سفر العاملات اللواتي لم يعد يناسبهنّ البقاء في لبنان وخاصة اللواتي يتقاضين أجر عملهنّ على الساعة، وذلك عبر إعفائهنّ من دفع الغرامات الناتجة عن كسر الإقامة وعبر الإمتناع عن توقيفهنّ كونهنّ خالفن نظام الإقامة. جاء جواب الأمن العام بأنه سيتّخذ إجراءات فورية لتسفير العاملات وذلك عبر تغريمهن عن سنة واحدة فقط مهما كانت الكسور والامتناع عن توقيفهنّ إلّا في حال وجود دعاوى جزائية بحقّهن. ولكن قبل تبليغ قرار الأمن العام رسمياً، انتشر وباء كورونا وأغلق المطار، وعليه لم يعد بمقدور العاملات اللواتي يسكنّ في منازل كفلائهنّ واللواتي انتهت عقود عملهنّ وهنّ يمثّلن الفئة الأولى من العاملات، أو اللواتي يتقاضين أجرهنّ على ساعة العمل ويمثلن الفئة الثانية، مغادرة البلد.

رسالة إلى السفارة

 

أما الجدير ذكره أنه في تاريخ 11 تشرين الأول من العام الماضي، وجهت مجموعات إثيوبية في لبنان رسالة إلى رئيس الوزراء الإثيوبي طالبةً منه التدخًل لحثّ القنصلية على القيام بواجبها، تحت عنوان “لقد سئمنا من العودة جثثًا إلى بلدنا، نطالب بإجراءات فورية لوضع حد لقتل العاملات الإثيوبيات في لبنان وانتهاك حقوقهن”. وأشارت الرسالة أن العديد من العاملات يعانين، وبشكل يومي، من إساءات وانتهاكات لا توصف. وأنه منذ العام 2019 ولهذا اليوم، توفيت 36 عاملة إثيوبية على الأقل في لبنان، وفقًا لتصاريح غير رسمية صادرة عن القنصلية الإثيوبية. وقد ورد في الرسالة أن عدد العاملات الإثيوبيات بلغ 161,311 عاملة نظامية مسجلة لدى الأمن العام، بالإضافة إلى نحو 100,000 عاملة غير نظامية أجبرن على مخالفة شروط إقامتهن بسبب طبيعة نظام الكفالة الذي يفرض هذا الواقع عليهن.