لماذا لا يثق معظم اللبنانيين بحملة رئيس الجمهورية ميشال عون وفريقه السياسي لتسويق تنفيذ ملف التدقيق الجنائي، بعدما تم تصويره وكأنه يشكل المدخل الأساسي لحل كافة المشاكل والأزمات السياسية والمالية والاقتصادية التي يواجهها لبنان حالياً؟
ببساطة، لأن التجارب السابقة مع حملات مماثلة لرئيس الجمهورية وفريقه السياسي، قبل توليه الرئاسة وبعدها، وبرغم كل الشعارات الفضفاضة التي طغت عليها واستحوذت على عناوين «الاصلاح والتغيير ومكافحة الفساد»، بقيت مجرد اساليب لاستقطاب ودغدغة مشاعر الناس وأحاسيسهم، وكانت تنتهي دائماً عند حدود تأمين مصالح شخصية وسياسية صرفة، كما هي الحال لدى توزير صهر الرئيس جبران باسيل او الحصول على اعتمادات مالية ضخمة، كما حصل في بداية تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، لتصرف على تطوير وتوفير التيار الكهربائي ولكنها ذهبت هباء وسدى، وانتهى وضع الكهرباء إلى أسوأ حال كما هو عليه في الوقت الحاضر.
ومن لا يذكر من اللبنانيين كم موقف وبيان صدر عن رئاسة الجمهورية ورئيس الجمهورية تحديداً بخصوص مكافحة الفساد منذ بداية العهد الحالي قبل اكثر من اربع سنوات، وتم تعيين وزير محسوب على رئيس الجمهورية لمكافحة الفساد، ولكن لم يتم فتح او مقاربة ملف فساد واحد طيلة فترة تحمله المسؤولية لأكثر من سنتين، ولم يعرف الناس ماذا كان يفعل الوزير المذكور طوال مدة توليه هذه الوزارة، باستثناء التسمية التي حاز عليها لولائه السياسي وليس لجدارته بتحمل المسؤولية الوزارية او مقاربته لملف مهم بحجم مكافحة الفساد. بينما لوحظ ان الفساد قد عمّ وانتشر في معظم مؤسسات الدولة وكانت وزارة الطاقة من أبين هذه المؤسسات التي لم يستطع أي مسؤول او ادارة مختصة بمراقبتها وإجراء المحاسبة المالية اللازمة للمبالغ التي تصرفها، لأنها محصّنة بوزير محسوب على رئاسة الجمهورية كما يعرف القاصي والداني بذلك.
أربع سنوات ونيف انقضت ورئيس الجمهورية ميشال عون يحارب الفساد بالشعارات الفضفاضة والوعود المتتالية، ولكن لم يلمس المواطن أي خطوة جدية في هذا الاتجاه، بل على عكس ذلك تماماً، كان استغلال السلطة وتفشي الرشوة يعمّان معظم الوزارات وادارات الدولة، بينما أمعن رئيس الجمهورية بتعطيل واجهاض اهم خطوة لمكافحة الفساد عندما احتجز مرسوم التشكيلات القضائية في الأدراج برغم مرور أشهر عديدة على إحالته اليه، لأنه لا يتماشى مع محاولاته الحثيثة لكي يعيّن القضاة المحسوبين عليه او بعضهم في مراكز حساسة في السلطة القضائية، ليتسنى لتياره السياسي استغلال هذه المواقع لمصالحهم وضد خصومهم السياسيين، كما يحصل حالياً وعلى «عينك يا تاجر»، في مسلسل الكيدية السياسية وتركيب «ملفات» وإغلاق قضايا يعاقب عليها القانون.
كيف يصدق الناس ادعاءات الرئاسة وفريقها السياسي بأن تنفيذ ملف التدقيق الجنائي الذي يوجّه منذ طرحه اعلامياً قبل عام باتجاه إدارات معينة ومؤسسات عامة ومصرفية، يطمح العهد منذ بدايته بتعيين محسوبين عليه في ادارتها وتولي مسؤوليتها، كما هي الحال في مصرف لبنان مثلاً وغيره من الإدارات الأخرى، بأن الهدف منه اجراء الاصلاحات اللازمة او التحقيق في الفساد والأموال المهدورة، في حين تستثنى الوزارات والادارات الرسمية التي يتولاها محسوبون على العهد وتياره كوزارة الطاقة وغيرها من المؤسسات التي ينخرها الفساد وهدر المال العام دون طائل؟
الأهم، يبدو أن طرح تنفيذ ملف التدقيق الجنائي على هذا النحو، في الوقت الذي تبدو فيه مسألة تشكيل حكومة انقاذ بسرعة لمباشرة حل الأزمة، يطرح اكثر من سؤال واستفسار ويزيد من الشكوك والنوايا المبيتة وراءه، ولا سيما بعدما بلغت الأزمة الحالية حداً، لا يمكن وقف تداعياتها وضررها الفادح الذي يضغط على اللبنانيين بقوة، إلا من خلال الإسراع بتأليف حكومة تتولى مهماتها وتحظى بتأييد ودعم محلي وعربي وخارجي لكي تستطيع وقف الانهيار الحاصل.
ولا شك ان تقديم طرح ملف تنفيذ التدقيق الجنائي من قبل الرئاسة في هذا الظرف بالذات، يرمي إلى وضع مزيد من العقد والشروط التعجيزية في طريق تشكيل الحكومة الجديدة، لتحقيق مطالب قديمة – جديدة لم يستحصل عليها بطرق التعطيل المعتادة، رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل برغم إطالة أمد العرقلة والتعطيل، إن كان بالنسبة لمسألة الحصول على الثلث المعطل، أو احتجاز التشكيلة الوزارة لكي تولد عن طريقه كما جرى سابقاً وبشروطه على حساب مصلحة لبنان وشعبه، وليس إلى تحقيق الاصلاح ومكافحة الفساد كما يروج ويدعي فريق العهد خلافاً للواقع والحقيقة.
إزاء كل ذلك، تبدو همروجة التلميع الإعلامي لتنفيذ ملف التدقيق الجنائي هزيلة، وكفقاعات هوائية، بل نتيجة، استناداً للتجارب السابقة المحبطة للعهد الرئاسي وفريقه الحزبي، وتوشر إلى مزيد من العقد والصعوبات، في طريق تشكيل الحكومة الجديدة، ولا تبشر بأي شكل من الإصلاح بعدما دخلت في خضم الصراع السياسي الدائر.