سلّمته إلى الجهات الخاطئة بالأمس وأعادت الكرّة اليوم… وتنتظر نتائج مختلفة
بعد انتظار نحو سنة وشهرين بسبب “ضوء” التعطيل الأصفر، أوحى الضوء الأخضر الناتج عن “الموافقة الإستثنائية” الصادرة عن رئيسي الجمهورية والحكومة لتجديد التعاقد مع “ألفاريز آند مارسال”، بأنّ التدقيق الجنائي في مصرف لبنان سينطلق سريعاً. ومع هذا، قد لا تنجح “أبواق” الجهات المحلية والدولية في تحقيق أهدافها كون أسباب التعطيل في طريقة التنفيذ المتبعة حالياً كثيرة. فسرعان ما سيعود الضوء الأحمر لـ”يشعشع” معطلاً الفرصة الوحيدة للمضي بـ”التدقيق” قبل انتهاء مهلة رفع السرية المصرفية نهاية العام الحالي.
بعد الكثير من الأخذ والرد في الحكومة، وإقصاء شركات محترفة في التدقيق، كلّف مجلس الوزراء وزير المالية التوقيع مع شركة التدقيق “ألفاريز آند مارسال” في 21 تموز 2020. إلا أن العقد سرعان ما سقط في 20 تشرين الثاني من العام نفسه بضربة عدم تمكن الشركة من الحصول على المعلومات التي تخوّلها البدء بعملية التدقيق الجنائي، بحجة السرية المصرفية التي استعان بها مصرف لبنان للتعطيل. وبعد شهر أقرّ مجلس النواب قانون تعليق العمل بالسرية المصرفية لمدة عام لتسهيل إعادة إطلاق التدقيق. استمرت الأمور بالمراوحة في المنطقة الرمادية. حيث أعربت “ألفاريز” في أيار 2021 أي بعد 5 أشهر على سريان قانون رفع السرية المصرفية، أن المستندات والمعلومات التي حصلت عليها من مصرف لبنان كافية لإحياء التدقيق الجنائي مجدداً. إلا أنها اشترطت توقيع عقد جديد بكلفة إضافية بنحو 400 ألف دولار فتصبح قيمة العقد 2.7 مليون دولار. وفي الأول من أيلول الحالي وقّع رئيس الجمهورية المرسوم الرقم 8360 القاضي بنقل اعتماد من احتياطي الموازنة العامة الى موازنة وزارة المالية بقيمة 4 مليارات و927 مليون ليرة لبنانية لزوم التعاقد مرة جديدة.
العراقيل لم تذلّل
بغض النظر عن أن قيمة الإعتماد المخصص هي 250 ألف دولار بحسب سعر الصرف الحقيقي، وليس 2.7 مليون كما ينص العقد، فان “هناك الكثير من العراقيل المزروعة على الطريق من أجل عدم اتمام “التحقيق المالي” الذي يوصل إلى “المحاسبة الجنائية”، كما تقول نقيبة “خبراء المحاسبة المجازين” سابقاً، ورئيسة “جمعية مدراء مؤهلون لمكافحة الفساد – لبنان”، الأستاذة جينا الشمّاس، “حيث من شأن التحقيق أن يرسم العلاقة في المحاسبة بين كل قيد وقيد، وتحديد ارتباطها بالأطراف المستفيدة من العملية المالية. وفي حال تجاوز حدود السلطة في التصرّف بالمال العام او بأموال المصارف او أموال المودعين أو أموال جهات أخرى، يمكن تحميل مسؤولية سوء استخدام النفوذ او السلطة الى الإدارة والقيمين على الحوكمة في المصرف المركزي، أو أي من الهيئات الاخرى المرتبطة به.
المفارقة بحسب الشماس أن “التدقيق حاصل ومدفوع ثمنه سلفاً من قبل شركتي تدقيق عالميتين متعاقدتين مع مصرف لبنان. وكان من المفترض أن نحصل على تقاريرهما السنوية دلالة على أنّ البيانات المالية لمصرف لبنان تظهر بصورة عادلة المركز المالي للمصرف وفق المعايير الدولية المعتمدة، علماً انها تتضمن نتائج القيود المحاسبية وفق المستندات الثبوتية والعقود والتحويلات والحركة المالية والنقدية التي تحصل داخل المصرف وفي الحسابات المرتبطة به. إلا أن هذه الشركات كانت “تخيّط التقارير على مدار السنوات الماضية بشكل لا يدينها، ولا يورّط حاكم المركزي بمشاكل نتيجة السياسات النقدية التي يتبعها، خلافاً عن المعايير الدولية المعتمدة، لا سيما الأوروبية والتي بحسب أقوال الحاكم في المقابلة المتلفزة في ايار 2020، يعتمدها المركزي. فتخرج التقارير كـ”الماء” من دون لون أو رائحة أو طعم. وكأن كل الأمور تسير على خير ما يرام داخل جدران مصرف لبنان. فيطمئن القارئ لنتائج التدقيق ولا أحد يعرف المُخبّأ من المعطيات. من جهة أخرى، ساعدت الصلاحيات الواسعة المعطاة للحاكم على إبقاء الحقائق مدفونة.
فقد أتاح القانون للحاكم، بحسب الشماس، “الجمع إلى سدة حاكمية مصرف لبنان، ترؤس بشكل غير مباشر لجنة الرقابة على المصارف وبشكل مباشر كل من هيئة الأسواق المالية والهيئة الخاصة للتحقيق. كما فرض الحاكم بشكل شبه مباشر سلطته على المجلس المركزي. وكان تأثيره واضحاً بشبه تعطيل وجود مفوض الحكومة لدى مصرف لبنان؛ وهو المذكور في القسم الرابع من قانون النقد والتسليف، لا سيما المواد 43 و44 و45 منه. فمفوض الحكومة مكلف من قبل وزارة المالية “بالتدقيق في صناديق المصرف المركزي وموجوداته”، بحسب نص القانون. أمّا اللجنة الاستشارية، كما في القسم الثالث من قانون النقد والتسليف، بدءاً بالمواد 35 وما بعد، التي من المفترض أن تكون مؤلفة ممن تقترحهم الهيئات الاقتصادية لوزير المالية. فقد تمّ تعطيل دورها بموافقة وزير المالية.
إنّ الجمع بين هذه المناصب عطّل عنصرَي الوقاية والردع، ورفع من مخاطر الفساد والخطأ الجوهري والمخالفات، لما يفسح المجال امام تضارب المصالح بين الهيئات المعنية وبين المصلحة الخاصة لحاكم مصرف لبنان والمصلحة العامة، التي هي من واجبات منصب حاكم مصرف لبنان. هذا بغضّ النظر إن كان جمع كل هذه الصلاحيات بيد شخص واحد مؤتمن على الثروة الوطنية والمال العام يتناقض مع المعايير الدولية للمحاسبة وإجراءات الضبط الداخلي والرقابة الداخلية، التي يفترض أن يعززها حاكم مصرف لبنان والمصرف المركزي بدلاً من أن ينتهكها. وأين الأنظمة المصرفية الدولية من جميع هذه المخالفات؟ وأين معاهدة الأمم المتحدة لمكافحة الفساد من عدم تطبيق الفصل الثاني “الوقاية من الفساد”؟ فالتغاضي عن فصل الصلاحيات والموجبات وتأمين رقابة مستقلة ومجردة تسمح بحماية الثروة الوطنية، هو ارتكاب متعمّد للجرائم المالية او التواطؤ مع المرتكبين لتغطيتها. وما وضع العقبات في وجه التدقيق او التحقيق المالي الجنائي الا تعطيل لعنصر كشف المخالفات بعد تعطيل الوقاية والردع.
تفخيخ التدقيق “منو وفي”
السؤال المركزي اليوم هو ليس إن كان هناك مخالفات، بل أين وقع الخطأ الجوهري في إدارة المال العام في المركزي؟ ومن هم الاشخاص المسؤولون عنه؟ ومن هم الذين استفادوا من المال العام المنهوب؟ ذلك أن ظهور نتيجة الأخطاء يعني بحكم المنطق، أنها وقعت. وهنا يأتي دور الكشف”، تقول الشماس، و”بما أن أدوار المعنيين بالكشف عن الأخطاء معطّلة، وفي مقدمهم مفوض الحكومة المنوطة به مهام “مراقبة المصرف” وتتوفر لديه كل المعلومات نتيجة التدقيق السنوي الشامل المنصوص عنه في قانون النقد والتسليف، تليه لجنة المال والموازنة النيابية التي تقع على عاتقها مسؤولية مراجعة كل البيانات المالية للمؤسسات العامة المدقق بها أثناء دراسة الموازنة، فيصبح هذا الدور، اي دور الكشف، منوطاً بشركة التدقيق الجنائي”.
إنطلاقاً من كل ما تقدم ترى الشماس أن ليس الحاكم وحده من سيعمد إلى تعطيل التدقيق وتضييع الوقت لكي لا تظهر الارتكابات والمخالفات المخبّأة منذ سنوات، إنما هناك مصلحة قوية لكل الأطراف المساهمة بالقرار للتغطية على الأخطاء الجوهرية التي تدينهم. وسيجتهدون كي لا يتم هذا التدقيق. ونتيجة الجهل بالقوانين وشروط التدقيق والمحاسبة… سلّمت الحكومة إدارة التحقيق للجهات المسؤولة عن الأخطاء وجلست تنتظر من دون الوصول الى اي نتائج فعلية منذ آذار 2020، من دون أن تدري ربما، أن عنصر تفخيخ التدقيق “منو وفي” وهي تبدأ بـ:
– تسليم الملف لوزارة المالية، مع العلم أنه في قانون النقد والتسليف هناك مسؤولية مشتركة ومتلازمة بنسبة 80 في المئة بين وزير المالية والحاكم. ذلك أن الحاكم يأخذ قراراته بعد التشاور مع وزير المالية. ووزير المالية لديه مسؤولية الرقابة بواسطة مفوض الحكومة. والتدقيق سيطال القيمين على وزارة المالية الحاضرين والسابقين.
– عدم كفاءة القيمين على المالية في هذا الموضوع تحديداً، إذ انه يتطلب أصحاب اختصاص. ومن المفروض أن يكون هناك مستشارون مختصون للتعامل مع “ألفاريز” يتقنون عملياً كيف التعامل مع “العقل” المحاسبي الدولي. فالشركة لا تستطيع أن تحيد عن الشروط والمعايير الملزمة والتي ترتبط بها الشركة دولياً، ولا يمكنها التغاضي عن مخاطر مخالفة القوانين التي تسري عليها كشركة تدقيق دولية. كما أنها لا تستطيع الخروج عن بعض الخطوط لأنها تتفادى مخالفة النظام المفروض على الممارسة المهنية. يعني أنها لا تستطيع العمل على الطريقة اللبنانية.
– استمرار تحييد مفوضي الحكومة لدى مصرف لبنان عن التحقيق لجهة التدقيق في كشوفاتهم ومساءلتهم عن الفترة الماضية.
العقد قد لا يوقع، خصوصاً أن شركة التدقيق تطلب توقيع الحاكم شخصياً عليه. وهو ما قد لا يفعله بسهولة. وفي حال توقيعه، فان التعطيل سيستمر وستخسر الدولة شرط فسخ العقد نتيجة عدم تزويد الشركة بالمعلومات المطلوبة. ومن المتوقع أن يكون للحاكم شروط تعجز شركة التدقيق عن القبول بها. وفي حال قبلت سيستمر الحاكم في تضييع الوقت إلى أن تنقضي مهلة رفع السرية المصرفية، برأي الشماس.
ما الحل إذاً؟
يتلخص الحل برأي الشماس بالاستحصال على أمر قضائي بالتحقيق في مصرف لبنان بواسطة خبراء لبنانين مجازين إضافة الى الشركة المعينة أو شركة تدقيق أجنبية، بعيداً عن سلطة وزارة المال التي يجمعها بالتحقيق تضارب المصالح. وبرأي الشماس أنه لغاية اللحظة لم يستطع أحد أن يَخرج بالاستنتاج القانوني الصحيح الذي يُلزم مصرف لبنان بفتح اوراقه وفق النصوص القانونية اللبنانية والأجنبية المنصوص عنها دولياً في معاهدة الامم المتحدة. وهذا هو بيت الداء والدواء.