سنة 1860 زار لبنان المستشرق الفرنسي ارنست رينان، أحد كبار علماء عصره في علوم اللغويات والاثار والاعراق، وكتب من هنا الى أحد اصدقائه يقول: اذا اردت ان تشاهد طبيعة لا تجارى في روعتها، وبحراً مدهشاً، وسماء لا مثيل لها، ومجتمعاً هبط الى ادنى درجات اللاانتظام على أهبة الوصول الى الدولة المتوحشة… فتعال الى هنا.
وقبل إسقاط هذا التوصيف على حالنا اليوم بعد 161 عاماً على قوله، فلنلقِ الضوء باختصار شديد على ذلك العبقري رينان الذي أمضى عامين في المدرسة الاكليريكية قبل ان يتركها لينصرف الى رئاسة بعثة أثرية في فينيقيا والمنطقة. وقد وضع ثلاثة كتب عن لبنان قبل وفاته عام 1892 تاركاً مخطوطتين نشرتا بعد وفاته، الى مصنفات عديدة في علوم اللغات والفلسفة والنقوش والآثار والرحلات، الى مؤلفات في حياة السيد المسيح واللاهوت المسيحي في اطار النقد الديني على قاعدة الايمان.
الأسطر القليلة في الرسالة الى الصديق اختصرت حالنا وكأنها كتبت اليوم. أليس أننا وصلنا الى هذه الغابة حيث تتصارع الوحوش على المكاسب و…الجيف؟ وأما الطبيعة التي تغزل بها رينان فقد جنينا عليها.
ويمكن ضرب الأمثلة على أننا في حال وحشية. فعلاً أصاب الرجل كبد الحقيقة وكأنه كان يقرأ في مستقبلنا منذ ذلك الحين.
أما الطبيعة فكانت لدينا كمية هائلة من الجهل والطمع والمحسوبيات… لتشويهها بدءاً بإنشاء «حدائق الاسمنت» التي أزاحت الأشجار كالسنديان والصنوبر والوزال وحلت محلها، بفضل غياب السلطة وعدم تطبيق القوانين والأنظمة… فكان الاعتداء على البيئة شاطئاً وجبلاً ساحلاً وجرداً… وتكفي نظرة سريعة الى شواطئنا التي صادرها المعتدون على الأملاك البحرية، على طول الشاطئ، لتتبين لنا واحدة من أكبر الجرائم البيئية.
واما عن النفايات فحدث ولا حرج، فمع روائحها وسمومها والقضاء على الشجرية التي أعطت لبنان اسمه بأريج عطرها، فلم يبق من لبنان، الذي يعني البياض والنقاء والعطر واللبان، الا الاسم…
بماذا لم نسء الى هذا الوطن؟ متى رحمناه؟ أين حققنا مصلحة شعبه؟
… ولكن أليس هذا الشعب هو الذي أوصل النواب الذين، بدورهم أوصلوا السلطات الى مواقعها؟ في هذا السياق نستعيد ما قاله تشرشل الذي اعتبر الشعب مسؤولاً عن الفساد والانهيار في أي بلد، فقال بانتخابات تغير النواب بنسبة 70 في المئة «وإلا فاعلموا أن الشعب يحب العيش في هذه البيئة الفاسدة».