IMLebanon

تزوير «مشهد» عمران لا يُغيّر «صورة» النظام

لم تتوقف آلات الإعلام السوري عن العمل يوماً، ثمة «مصانع» تجنّد موظفين وإعلاميين للخروج بمنتجها بحلّته الافضل: الأسد رجل سلام. ليس الكلام عاطفياً او مفبركاً، الكلام علمي، بالدلائل والصور والتقارير الاخبارية والفيديوهات والتصاريح الرسمية. وقد وثقتها كلها في السنوات الست الاخيرة خصوصاً، مواقع التواصل الاجتماعي والاعلام العالمي ومنظمات حقوقية وانسانية دولية.

كيف يصنع الاعلام الاسدي صورته البراقة؟ يكاد يكون اسم الطفل عمران دقنيش هو الاشهر في شبكة الصور والاخبار عن الاحداث المأسوية التي شهدتها المدن السورية منذ بداية الحرب. رمز انتفاضة الشعب السلمية في وجه اكثر الانظمة اجراماً في العالم، والملقّب بـ «ايقونة الثورة»، الطفل الحلبي ابن السنوات الاربع الذي غطى الغبار والدموع والدم وجهه على اثر قصف الطائرات السورية والروسية لحي القاطرجي في حلب في آب 2016، التقط مصور «مركز حلب الاعلامي» صورة له جالساً على كرسي اسعاف مصاباً بالهلع والصدمة، لا يقوى على الحركة او الكلام، فيما يظهر والده في الفيديو وهو ينقل شقيقته التي نجت من القصف بدورها وهو يصرخ بأعلى صوته مهاجماً النظام والقوات الروسية الداعمة له، اجتاحت صورته وسائل الاعلام العربية والعالمية وتصدرت صفحات الصحف الاولى وباتت رافعة اساسية لقضية الشعب السوري في العالم وادانة موثقة لاجرام النظامين الاسدي والروسي. انتقلت العائلة إلى مناطق النظام السوري في حلب، مع آلاف المدنيين الذين اختاروا هذه المناطق عقب سقوط الأحياء الشرقية للمدينة منتصف كانون الأول 2016، وتوقيع اتفاق إخلاء المعارضة السورية من حلب.

الطفل نفسه، والوالد نفسه، والقاتل نفسه ايضاً، اما المصور فاختلف هذه المرة. في فيديو ترويجي من اربع دقائق تقريباً علّق عليه مروّجوه على مواقع التواصل الاجتماعي بالتالي «ها هو الطفل عمران الذي حاولت قنوات سفك الدم السوري تضليل خبر إصابته بأنها ضربة من الجيش العربي السوري، يعيش الآن في كنف الدولة السورية مع جيشها وقائدها وشعبها»، يظهر عمران وهو بصحة ممتازة، ثياب انيقة وغرفة مرتبة تملأها الالعاب، اما الأب الذي بدأ كلامه باتهام «المسلحين وبعض اعلاميي الثورة الذين تاجروا بصور وقضية عمران»، حامداً ربه «على تقدم جيش النظام السوري وسيطرته على حلب»، شرح «بالتفصيل» كيفية اصابة عمران ومقتل اخيه، «مصفّياً» ذمّته تجاه النظام بالقول «انا ملتهي بإخراج العيلة من تحت الركام وهنّي استغلوا هالظرف وصوروه بسيارة الاسعاف»، لينتهي الفيديو بصورة عمران رافعاً العلم السوري.

لن ندخل في تفاصيل التسجيل وكواليسه وخلفياته المكشوفة والواضحة، ليست هنا المشكلة، اذ باتت من بديهيات العمل الاعلامي السوري الرسمي. اصلاً ماذا يمكن الاستنتاج من فيديو يتفق على ترويجه على مواقع التواصل الاجتماعي قبل يوم واحد من عرض الحلقة الكاملة على التلفزيون السوري من خلال حساب كنانة علوش او اعلامية «سيلفي الجثث» التي انتشرت صورها مبتهجة ومحاطة بجثث المدنيين المتفحّمة، ترويجاً لبطولات الاسد؟.

كل ما يمكن الاشارة اليه من هذه المسرحية الهزلية، هو اطمئنان كل من تعاطف مع قضية عمران بأنه بخير، والتمنّي أن تكون كل هذه الرفاهية النسبية التي ظهرت في الفيديو حقيقية لا ديكورا سيزال فور انتهاء التصوير، غاضّين النظر عن مأزق الهوية والانتماء المزدوج الذي اظهره والد عمران في مقابلته مع التلفزيون السوري، مرغماً على استغلال صورة وقضية طفله. ولكن ان كان الاعلام السوري يصرّ ويراهن بشكل اساسي على محو كل معالم الاجرام الطافح الذي يعاني منه النظام الاسدي من خلال اسلوب معالجته الفضفاضة، وخطواته «المراهقة» اكثر منها خطوات سياسية حقيقية، وتكذيب كل من نشر وصوّر ووثّق وأعلن، وبثّ مقاطع شعبوية تافهة مصوّرة تحت الضغط والترهيب، فإنه يعمل بالتوازي على جبهة اخرى: إغراق نفسه ومعه رئيسه في السخافة المستفزة التي ما عادت منحصرة ضمن اطار الجمهور السوري فحسب بل تخطّته الى كل العالم.

ولكن ما جدوى «العتب» على نظام امتهن الاجرام، وإعلاميين اتخذوا من صور السلفي مع جثث المدنيين اسلوباً للمفاخرة بالقتل، ان كانت احدى اهم الشركات العربية تكبدت عناء انتاج اعلان رمضاني بميزانية مالية خيالية وتأثيرات سينمائية ضخمة ولافتة مستعينة بأحد اهم النجوم العرب المعروف بإحساسه المرهف في التعبير عن حالات الحب والسلام؟ الاعلان العربي ورغم ابداعه الفني شكّل صدمة سلبية لدى الجمهور العربي بعد وقوعه في نفس خندق النظام السوري بحيث برّأه من جريمة القصف المركز الذي طاول الاحياء الشرقية لمدينة حلب. يمكن لهذا الاعلام الترويج للأسد عن قصد او غير قصد وكما يشاء، بالكذب، بالتضليل، بالترهيب، وبوقاحة وإنكار لا متناهيين. لا مشكلة، فصوت مذيعة قناة الCNN المتقطع، وغصتها التي لم تستطع السيطرة عليها على الهواء وانهمار دموعها لدى رؤيتها فيديو انتشال عمران من تحت الدمار ورقده في سيارة الاسعاف قائلة «هذا عمران، المهم الآن انه على قيد الحياة»، ستبقى شاهدة على حقيقة المجرم الحقيقي والافظع انها ستبقى شاهدة على اعلام سوري رسمي لا يبدو أن ارتقاءه عن مستوى تقبيل الاحذية ما زال بعيدا.