Site icon IMLebanon

لا “الكورونا” بل النسيان الفيروس الأكثر انتشاراً في لبنان

 

 

هل صدف أن ضربت موعداً لصديقك قرب Lina’s في الكسليك وانطلقت من جبيل لملاقاته، فوجدت نفسك قد وصلت الى المرفأ من دون أن تدري؟ وهل سبق أن دخلت الى المطبخ لتناول دوائك اليومي، ففتحت البراد ووقفت أمامه لدقائق متأملاً ثم شربت ماء وعدت الى مكانك راضياً؟ لا تقلق عزيزي إنه النسيان، رفيق لجوج يطرق باب الذاكرة كلما أخافته أحداث الخارج.

 

تنسى هاتفك، نظاراتك، مفاتيحك، محفظتك وأين ركنت سيارتك. تنسى الأسماء والمواعيد والتواريخ. تنسى عيد ميلاد زوجتك. وتتناسى قسط البيت والموتور والمدرسة وتتناسى موعد السوبرماركت والغداء الاسبوعي عند حماتك… ولست وحدك من يعاني من النسيان فالكل من حولك يشكون من الأعراض نفسها لكنهم ربما ينسون ان يخبروك بشأنها.

 

إنه النسيان فيروس قديم مستجد يشهد في لبنان تبدّلا جينياً خطيراً ليتحول الى مرض يفتك بالجميع من دون استثناء: كباراً وصغاراً، شباباً كهولاً وعجائز، نساءً ورجالاً وما بين بين. لا أحد في منأى عن خطره والكل خاضع لتداعياته. وتشتد أعراضه تبعاً لاشتداد وطأة الازمات. فكلما ارتفعت حدة المشاكل على مقياس ريختر ارتفع معها مؤشر النسيان ليتحول من عابر الى متمكن الى زلزال يزعزع تفاصيل الحياة اليومية ويهز توازن اللبناني المهزوز اصلاً.

 

أزمة الخبز مثلاً رفعت المؤشر درجة، مع أزمة المحروقات تصاعدت إبرة النسيان ثلاث درجات على المقياس ذاته، أزمة الدولار أوصلتها الى ست درجات أما أزمة الكورونا فحولتها الى زلزال.

 

في علم النفس هذه ظاهرة معروفة فالأحداث الأمنية والاقتصادية والاجتماعية السيئة تؤثر على الذاكرة القصيرة وتجعل قدرة الإنسان على التعلم والإستيعاب محدودة. ولبنان اليوم مركز لكل انواع القلق والضغوط ولا إنسان قادر على البقاء في منأى عن هذه الأجواء لذا من الطبيعي أن تتأثر ذاكرته بما يعيشه من ضغوط وأن يصبح النسيان سمة من سمات حياته اليومية الحاضرة.

 

النسيان متأصل في تاريخ لبنان

 

لكن بالعودة الى الماضي القريب والبعيد نجد أن قصة اللبناني مع النسيان طويلة فكأنه مبرمج جينياً لتكون ذاكرته قصيرة كالسمكة وإلا لما استطاع أن يتعايش مع كل تناقضاته. عبر تاريخه القديم والحديث مر بمحطات نسيان كثيرة شكلت له درعاً واقياً، ساعده على البقاء في كنف وطن تتربص به الأخطار من الداخل والخارج.

 

إختلف مع أخيه في الوطن وتقاتلا وتصارعا ونشأت بينهما أحقاد ثم نسي لأي سبب تقاتل مع أخيه ولماذا تكارها فعاد وصالحه وتباوسا ثم نسي أنهما تصالحا فعادت العداوة بينهما من جديد.

 

حارب شقيقةً وزعزع مسمارها في لبنان وانتزع القرارات الدولية ضدها ثم نسي عداءه التاريخي معها وزار آثارها ونام في قصورها ومالح رجالها.

 

سب ناهبيه ولعنهم وحلف بألا يدعهم ينهبونه بعد اليوم ثم نسي بماذا حلف ولأي سبب لعن وعاد لينتخبهم من جديد.

 

ملّ من وعود تطلقها دولة تنسى في كل مرة ما وعدت به لكنه وبنعمة جينية يتمتع بها، نسي غضبه وأسبابه وعاد ليعطي وعود دولته فرصة جديدة.

 

شكر قطر ونسي، هلل للخليج ونسي، سب الأمبريالية ونسي واستورد الدواء والداء من بلاد فارس ونسي.

 

وسابقاً أمضى اللبناني اياماً وليالي يدرس في كتاب التاريخ عن ظلم الدولة العثمانية وبطشها برجالات لبنان وشهدائه لكنه نسي كل ما درس وتعب في حفظه وصار مشواره المفضل عند أحفاد الدولة العثمانية لينعم بحسن ضيافتهم.

 

كتب قصائد هجاء ضد الانتداب ورجاله واتحد مع أخيه في النجادة والكتائب ليتخلص من نير الدولة الفرنسية ثم نسي أنها دولة منتدبة وأحبها أماً حنوناً وعاد يتحسر على انتدابها ووجودها في عز أزماته الوجودية.

 

وقبلها عرف دور قناصل الدول العظمى في بث التفرقة بين طوائف الوطن وادعاءاتها حماية الأقليات ثم نسي وعاد يحتمي بها كلما تخانق مع غيره من الطوائف. هكذا اللبناني ينسى أغلاطه ليعود ويكررها ذاتها كل مرة. حتى أنه في ثورته اعتمد أغنية “إنساي” نشيداً له وظل يرددها حتى نسي مطالبه وصوب من يوجهها. وحين زاره فيروس الكورونا ذعر وهلع ولام الوزارات المسؤولة وحين طلب منه التزام المنزل نسي الهلع وخرج الى الحدائق والساحات يرفه عن ذعره ويتنزه بدلع.

 

مؤشر الأزمات ومنسوب النسيان

 

اليوم النسيان في لبنان ليس نعمة سياسية ولا درع وقاية من أجل البقاء، بل هو وباء متفش ينافس الكورونا ويصيب كل تفاصيل الحياة اليومية. فالظروف ضاغطة، مقلقة محبطة ولا أحد قادر على تحصين نفسه منها. يقول الاستشاري في علم النفس جون داوود أن اللبناني يعيش اليوم كما لو كان في غرفة يملؤها دخان السجائر، فحتى لو كان من غير المدخنين فإن رائحته ستكون عابقة بالدخان. وهكذا كل مواطن في لبنان يتأثر بما يعيشه البلد من أزمات وينعكس ذلك على نفسيته بكل مظاهرها وأحدها النسيان. إنها حقيقة علمية وليست وهماً او خوفاً ندعيه فالارتباط وثيق جداً بين السترس والذاكرة. فمن كانت ذاكرته ممتازة في الظروف العادية وتبلغ 10/10 تنخفض الى 6/10 عند التعرض للسترس أما من كانت ذاكرته في الأصل ضعيفة فقد تنخفض الى ما دون الصفر عند التعرض للسترس الشديد اثناء الأزمات ولا يعود قادراً على حفظ ما يسمعه فينساه بعد قليل.

 

فلنطمئن إذاً الى قدرتنا على النسيان. لسنا مرضى ولسنا مصابين بالألزهايمر المبكر، بل على العكس هذا دليل على أننا مواطنون لبنانيون طبيعيون نتفاعل مع الناس والأحداث من حولنا ونتأثر بها. نحن القاعدة أما أولئك الذين يحتفظون بذاكرة ممتازة ولا يتأثرون بما يجري من حولهم فهم الشواذ. ويؤكد الاستشاري في علم النفس أن التأثير يشمل الجميع بدرجات متفاوتة الرجال والنساء والشباب وحتى الأطفال، لكن الحدث ذاته يؤثر على كل شخص بشكل مختلف وذلك وفقاً لتقبله السلبي او الإيجابي له. من هنا يمكن القول ان منسوب النسيان يرتفع عند من لديه مسؤوليات أكبر لأنه يقيس الأحداث تبعاً لانعكاساتها عليه. ولذلك نرى أنّ الرجال بشكل عام هم الأكثر عرضة للنسيان بخاصة إن كانوا أرباب عيل يتوجب عليهم تأمين معيشة أفراد العائلة وكل متطلباتها فيما الصغار مثلاً لا يحملون همّ الأحداث كثيراً ولا يتأثرون بها.

 

“الذي ينسى الوحيش ينسى المنيح”

 

ولكن ماذا عن النساء وكيف تتأثر ذاكراتهن بالأحداث؟ نسأل إبراهيم وهو رجل في اواسط الستينات عن الأمر ومن ينسى أكثر برأيه في هذه الأيام النساء ام الرجال؟ فيجيبنا ضاحكاً: “النساء حتماً! ويخبرنا قصة طريفة مفادها أن عمته كانت كلما اختلفت مع كنتها تمضي اشهراً من دون التكلم معها وتقول لكل من يحاول التدخل لإصلاح ذات البين بينهما” يلي بينسى الوحيش بينسى المنيح”. ويضيف: “وهذا ما يخيفنا عند النساء فهن لا ينسين شيئاً ويذكرن الوحيش قبل المنيح. يخزّن كل ما يزعجهن في خانة مخفية في مؤخرة الرأس ليخرجنه عند الحشرة ويجادلن بشأنه من جديد”. ويؤكد إبراهيم أن ذاكرة المرأة فولاذية وحين تقول انها نسيت شيئاً فإنما تستعمل ذلك كحجة أو كذبة للتهرب من أمر ما. أما الرجل فهو ينسى بسبب كثرة الهموم في رأسه لكنه يختلق الأعذار والتبريرات حتى لا يعترف بنسيانه وبضعفه. ويستبدل كلمة نسيت بكلمات مرادفة مثل انشغلت، اضطررت، ما لقيت، ما كان عندي وقت وما الى ذلك من حجج…

 

رأي علم النفس في هذا الصدد أرحم من رأي إبراهيم، فالأم كما الأب اليوم يتأثران بما نعيشه من مخاوف وينعكس ذلك على نواح عديدة من حياتهما. وعلى الأخص على ثلاثة تحديات اساسية وفق علم النفس هي العمل، العلاقات الإجتماعية والعلاقات الحميمة. ونسأل جون داوود متى يصبح النسيان مؤذياً او خطراً على الإنسان؟ فيجيبنا: عبر المهام الثلاثة المذكورة سابقاً يمكن أن نقيس نجاح او فشل الإنسان في التأقلم مع ما يعيشه من ضغوط. فإذا وجدنا مثلاً ان النسيان يؤثر على عمل الشخص وعلى علاقاته بالآخرين أو على علاقته الحميمة مع الشريك، عندها نقول إنه يحتاج الى علاج وإنه قد دخل في مرحلة دقيقة لم يعد فيها قادراً على النجاح في تحدياته. كذلك ثمة معيار آخر مهم هو الحياة اليومية فحين يفقد الإنسان تركيزه في ما يتعلق بتفاصيل الحياة اليومية ويكثر عنده النسيان، فمعنى ذلك أنه يعيش ضغوطات قوية وأنه معرض للسترس الشديد.

 

أيها اللبنانيون إطمئنوا

 

لحسن الحظ يؤكد داوود أن الأمر لا يسير في اتجاه واحد بل يمكن عكسه بسهولة، وتشير كل الأبحاث النفسية الى أن الإنسان يمكن أن يسترجع ما خسره من ذاكرة حين يرتاح وتخف عنه الضغوط، فتعود قدرته على الاستيعاب ناشطة وتتحسن ذاكرته بقدر تحسن الظروف من حوله. والإنسان قادر على تحصين نفسه تجاه الضغوط عبر مقاربة مختلفة للامور أكثر إيجابية وأقل سوداوية، أو لنقل مقاربة موضوعية لا تعظم الأحداث وتعطيها أكثر مما تستحق، بل تتفاعل معه بأقل قدر ممكن من السترس ما يحفظ للذاكرة نشاطها وقدرتها على التركيز. ولحسن الحظ أيضاً فإن النسيان العابر لا يصيب الذاكرة الطويلة وما تختزنه من ذكريات بل يختص بالذاكرة القصيرة، ولا يمكن ان نسميه خرفاً مبكراً او ألزهايمر فهذه أمراض تصيب الجهاز العصبي، والنسيان ما هو إلا واحد من مظاهرها، وهو يتطور باستمرار وينذر بالأسوأ ولا يمكن عكسه. الأدوية والعلاجات قد تؤخر تمدده لكنها لا تلغيه. وهذه الأمراض التي نذكرها متندرين في حياتنا اليومية كلما نسينا امراً ليست مثار تنكيت وضحك بل هي أمراض حقيقية وطأتها شديدة الخطورة على من يصاب بها وعلى كل من حوله. لذا فلنكتفِ بضغوطنا اليومية ونحمد الله عليها ونرجوه سائلين ان يبعد عنا كأس الخرف والألزهايمر وانسباءهما. بعد كل هذا هل يحق لنا أن نأمل كلبنانيين بذاكرة افضل أم بات محكوماً علينا في لبنان بنعمة النسيان؟ يبدو أن الأمور تنذر والى أجل غير مسمى، بتفاقم فيروس النسيان فالأزمات ليست على وشك ان تتحلحل ومؤشر الضغوط الى ارتفاع وقد يرحل فيروس الكورونا قبل أن يغادرنا رفيقه فيروس النسيان المتجذر فينا.

 

كيف تُنشّطون ذاكرتكم

 

بما أن التوتر يفقدكم القدرة على التركيز فإن أول خطوة لاستعادة ذاكرة نشطة هي بالابتعاد عن التوتر واعتماد اساليب الاسترخاء الآتية:

 

– ممارسة نشاط رياضي محبب مثل المشي في الطبيعة او السباحة في ماء دافئ.

 

– الاستماع الى موسيقى تحبونها ومشاهدة فيلم مسل لا يتطلب جهداً.

 

– ممارسة نشاط جنسي مع الشريك.

 

– الاستلقاء في مغطس دافئ مع أملاح مهدئة أقله ثلث ساعة.

 

– أخذ قيلولة صغيرة بعد الظهر لمدة لا تتجاوز 20 دقيقة.

 

– تدليك القدمين بزيت دافئ مع التركيز على منطقة ما بين الأصابع.

 

– استبدال مواقع التواصل لمدة ساعة يومياً بقراءة كتاب مطبوع.

 

– تجنب التواجد مع اشخاص يحبون «النق» ولا سيما الزوج او الزوجة.

 

كذلك يمكن لبعض أنواع الأطعمة أو المتممات الغذائية أن تساعدكم في تقوية ذاكرتكم وأبرزها:

 

– الجوز الذي يحتوي على الأوميغا 3 وبعض الفيتامينات التي تساعد على تقوية الذاكرة وتحسين القدرات الذهنية.

 

– السبانخ: تتميز بقدرة عالية على تحسين أداء الذاكرة وتغذية المخ بغية تعزيز قدراته وهي تحتوي على نسبة عالية من الأوميغا 3 والحديد.

 

– الحبق: يساعد على رفع المعنويات والحد من الاكتئاب ويزيد بالتالي من القدرة على التركيز وعدم النسيان.

 

– الشمندر: له فوائد مذهلة في تحسين الذاكرة والوقاية من فقدانها بسبب السترس او مع التقدم في العمر، وإدخاله في الأنظمة الغذائية بشكل يومي يعزز من القدرة على التركيز.

 

– الأفوكادو: غني بمضادات الأكسدة ويساعد بالتالي في الحفاظ على خلايا الدماغ.

 

– البروكولي: مثل السبانخ ومعظم الخضار الخضراء تتميز بقدرة كبيرة على تحسين عمل الدماغ وتقوية القدرة على التركيز.

 

– الشوكولا الأسود: غني بمضادات الأكسدة يعزز تدفق الدم الى الدماغ ويحافظ على صحة خلاياه ويقوي القدرة على التركيز.

 

– سمك السلمون: غني جداً بحمض الأوميغا 3 يحافظ على الصحة العقلية بشكل عام ويساعد على تقويتها وتقوية الذاكرة.

 

– المتممات الغذائية الغنية بالأوميغا 3 (أو زيت السمك) مفيدة جداً للدماغ وتطيل عمر الخلايا العصبية فيه وينصح بتناول ما بين 0.5 الى 1.8 غ يومياً منها.