IMLebanon

حكايا منسية من تاريخ لبنان السياسي [1/2]

ريتشارد مورفي محذراً: مخايل الضاهر أو ألفوضى

 

دخل العام 1988، الذي يفترض أن يشهد انتخاب رئيس جمهورية جديد، في ظل استمرار التدهور المخيف في سعر الليرة اللبنانية.

ومع ان أكثر من جهة لبنانية، وخصوصاً في المنطقة الشرقية، كانت قد لفتت نظر الرئيس أمين الجميل إلى ضرورة الاعداد لتأمين خلف له، خشية الوقوع في فراغ دستوري، لكن وكما يؤكد كريم بقرادوني فقد «كان الجميل يعيش تجاذباً بين رغبة وواقع: رغبة في التمديد وواقع استحالته».

في حزيران 1988 التقى رئيسان حافظ الأسد وأمين الجميل على هامش مؤتمر القمة العربية الذي عقد في الجزائر، فاتفقا كما يُؤكّد كريم بقرادوني: «على ان يقترح الرئيس اللبناني على الرئيس السوري بعض الأسماء التي يراها مناسبة لتولي منصب رئاسة الجمهورية».

ويقول بقرادوني: «بعد اسبوع من القمة أوفد أمين الجميل الوزير جوزيف الهاشم إلى العاصمة السورية لاستكمال البحث في انتخابات رئاسة الجمهورية، وتم الاتفاق على أن يعود الوزير اللبناني لاحقاً إلى دمشق، حاملاً لائحة بأسماء أربعة مرشحين أو خمسة تقوم سوريا باختيار واحد منهم، لكن أمين الجميل ارتأى ان يجتمع بسمير جعجع في القطارة قبل أن يتابع المفاوضات مع دمشق».

في 9 تموز، عقد لقاء في مقر إقامة سمير جعجع في القطارة حضره إلى الرئيس الجميل وجعجع، كريم بقرادوني ونادر سكر، وتم في هذا اللقاء كما يتناوله كريم بقرادوني: «استعراض للأوضاع السياسية المحيطة في انتخابات رئاسة الجمهورية. كما درسوا أسماء المرشحين اسماً اسماً، حيث تمّ بسرعة الاتفاق على الأسماء التي تمّ استبعادها ووضع عليها فيتو وهي ثلاثة: سليمان فرنجية وريمون إده وميشال عون وبدأ البحث بالاتفاق على الأسماء المقبولة لرئاسة الجمهورية، فراحت الأسماء تتساقط اسماً تلو اسم ، فالشخص الذي لا يعترض عليه امين يلقى معارضة سمير، والاثنان يعترضان على معظم المرشحين.. وفي ختام الاجتماع تم الاتفاق على ثلاثة مرشحين هم: رينيه معوض، ميشال إده، وبيار حلو».

ويقول كريم بقرادوني ان التعليق النهائي لأمين في هذا الاجتماع كان: «لست مستعجلاً في فتح بازار انتخابي مع القيادة السورية ولست مستعداً للتفرد باللعبة، بل اريد اشراك الادارة الأميركية فيها. لن ارسل الأسماء دفعة واحد بل اسماً اسماً، واتركوني أتفاوض في النهاية من الرئيس الأسد مباشرة».

يتابع بقرادوني: «لم يوفد الرئيس الجميل، جوزيف الهاشم مجدداً إلى سوريا، وطلب من الادارة الأميركية أن تأخذ على عاتقها كامل المفاوضات مع سوريا حول موضوع رئاسة الجمهورية، وجاء الرد الاميركي متحفظاً، فلم يقبل مورفي بان يقوم بزيارات مكوكية بين دمشق وبيروت، وأبدى استعداده للقيام بزيارة واحدة في الوقت المناسب».

وفي 21 تموز اتخذت القوات اللبنانية موقفاً علنياً رفضت فيه ثلاثة مرشحين للرئاسة هم: ريمون إده وميشال عون وسليمان فرنجية. وتعاطف الرئيس أمين الجميل مع هذا الموقف. وفي نهاية تموز انتشرت شائعات بأن الجنرال عون ينوي القيام بانقلاب أثناء فترة الانتخابات. ولكن الرئيس ومستشاريه العسكريين لم يأخذوا هذه الشائعات مأخذ الجد لأن انطباعهم بالنسبة لميشال عون هو انه لن يجرؤ على أن يقدم على مثل هذه الخطوة».

كان موعد انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل يقترب بسرعة وفي كل يوم تقريباً كان الرئيس يبحث مع مستشاريه الأسماء الثلاثة التي سيرسلها إلى الرئيس الأسد بواسط الجنرال غازي كنعان. غير ان هذه الأسماء كانت تتغير كل يوم، كذلك. وفي باريس كان الحريري يجري تقييماً للمرشحين. ثم يتقدّم برأيه الى السوريين والأميركيين.

وأبلغ الاميركيون الرئيس الجميل ان سليمان فرنجية «لن ينتخب» فيما قال الجميل للأميركيين ان ريمون إده وميشال عون لن يسمح لهما بالوصول إلى الرئاسة. ولعله بذلك قصد ان القوات اللبنانية، بدعم منه على ما يرجح، ستعارض انتخابهما.

وهنا طلع جعجع باقتراح وطلب منا ان ننقله إلى الرئيس الأسد بواسطة مورفي. وفيه دعا أن يختار الرئيس ثمانية أسماء، وبذلك تنعكس العملية التي كان يدعو إليها الرئيس السوري، ثم نقوم نحن، أي الرئيس الجميل والقوات اللبنانية والزعماء في المنطقة الشرقية باختيار ثلاثة من بين الثمانية. بعد ذلك يكون للرئيس الأسد أن يختار مرشحاً من الثلاثة. ورفض الأميركيون حمل الاقتراح. وفي هذه الأونة كان التنسيق بين الجميل وجعجع كاملاً، يضاف إلى ذلك ان الأميركيين كانوا يرفضون نقل اسم أي مرشّح إلى دمشق ما لم يكن مقبولاً للرئيس الجميل وسمير جعجع على اعتبار انه لا الجميل وحده يمثل المسيحيين. ولا جعجع وحده يمثل المسيحيين. وفي الرابع من آب اجتمع مورفي بالرئيس الجميل في بيروت، وأصدر بياناً أكد فيه أهمية إجراء الانتخابات، ووجوب التقيّد بالدستور، ومسؤولية اللبنانيين في «اختيار رئيسهم الجديد».

وفي منتصف شهر آب أعلن الرئيس سليمان فرنجية ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية. وعين رئيس مجلس النواب حسين الحسيني يوم 8 آب. موعداً لانتخاب رئيس الجمهورية، لكن نصاب المجلس لم يكتمل حيث عمل كل من الجميل وجعجع وعون مع اختلاف كل واحد في حساباته، على منع عقد هذه الجلسة. فراح «الجميل وجعجع يعملان لمنع النواب من الوصول إلى مجلس النواب للحؤول دون اكتمال النصاب. وفي الليل وزعت القوات اللبنانية مسلحين في المنطقة الشرقية لمنع النواب من الوصول إلى المجلس. وتعاون معهم الجميل وعون في هذا السعي، ولو لأهداف مختلفة. الجميل يأمل بأن يكون الرئيس الجديد صديقاً له يتعاون معه ويعطيه كرئيس سابق دوراً في الشأن العام اما عون فشارك في الحؤول دون الانتخاب خشي ان يكتمل النصاب وينتخب المجلس سليمان فرنجية. لقد كان يريد تأجيل العملية ريثما يشعر انه له فرصة جيدة لترشيح نفسه واحتمال انتخابه رئيساً».

ويروي الوزير السابق ايلي سالم: «ويوم الانتخاب، خطف بعض النواب الذي k تجرأوا على تحدي الحواجز، حتى الظهر حين أعلن إلغاء الجلسة بسبب عدم اكتمال النصاب. وحين زرت أحد النواب في وقت لاحق لتهنئته بالافراج عنه، راح يروي قصته أمام الزائرين قائلاً بتأثر: فيما كنت أتوجه بسيارتي إلى المجلس، أوقفني المسلحون، وطلبوا مني هويتي فقلت لهم انني نائب ذاهب إلى المجلس للقيام بواجبي الوطني.. ها.. ها.. أجاب المسلحون.. نائب يا له  صيد ثمين».

وفي 31 آب اجتمع  البطريرك الماروني بطرس صفير بالنواب الموارنة، وأصدر بياناً دعا فيه إلى انتخاب الرئيس قبل موعد 23 أيلول. والتعاون مع سوريا والدول الأخرى، لضمان نجاح العملية الانتخابية، واجراء الإصلاحات. غير ان الإصرار السوري على فرنجية زاد تأكيد ان الانتخابات الرئاسية لن تجري. وحتى الآن تعاون الجميل وجعجع وعون فيما بينهم على رفض فرنجية، ثم أنه لم يكن هناك أي دليل على إمكان اتفاق الثلاثة مع سوريا على مرشّح واحد.

كان موعد انتهاء ولاية الرئيس الجميل في 23 أيلول يقترب دون ان تلوح في الأفق بادرة أمل في انتخاب رئيس جديد للبلاد، فانتاب لبنان والمنطقة تخوف من فراغ دستوري، وتحرك السفير الأميركي جون كيلي فطلب من القيادات المسيحية التفاهم على لائحة من ثلاثة أو أربعة مرشحين لكي يتم عرضها على الإدارة الأميركية والرئيس حافظ الاسد، ويؤكد كريم بقرادوني هنا، ان كيلي اشترط ان تحظى هذه اللائحة بموافقة الرئيس الجميل والقوات اللبنانية.

وقضى الرئيس الجميل الأسبوعين الأخيرين من عهده وهو يحاول ايجاد حل للانتخابات الرئاسية، أو إقامة حكومة انتقالية في حال عدم اجراء الانتخابات واتجه التفكير الى الرئيس السابق شارل حلو كرئيس للحكومة الانتقالية، واتجه ايلي سالم وسيمون قسيس، بناء على تكليف من الرئيس، لاستكشاف الموضوع عنه. وبعد ان انهى سالم كلمته التمهيدية، فقال له الرئيس حلو: انني اعرف ماذا تريدون؟ تريدون مني أن أكون رئيس حكومة. ذلك ما لا استطيع القيام به. انني متقدّم في السن، وزوجتي مريضة، فقد قمت بما يتوجب علي، واليكم اسماء من أطرحهم لهذا المنصب. اقترح غسّان تويني: لديه صحيفة كبيرة وهو لا يفتقر إلى الخبرة. صحيح انه  يتكلم كثيراً ولكن كلامه له معنى أكثر الوقت. واقترح أيضاً ايلي سالم : صحيح انه جديد في السياسة، ولا ريب ان امامه اشياء كثيرة يتعلمها. ولكن لم لا؟ وماذا بشأن جوزيف الهاشم؟ هو، بخلاف ايلي سالم، لا يتقن الصمت. وماذا بشأن عبده عويدات؟ هو نائب جيد ولو انه بدا لي في المرة الأخيرة التي لقيته فيها مسناً. وماذا بخصوص الجنرال عون؟ لا، لا. ارجو شطب الاسم من اللائحة. لا تقولوا للرئيس انني اقترحت اسمه. وماذا بشأن فرنجية؟ هو رجل دولة مجرب ولكن اعداءه كثر في شرق بيروت. وماذا بشأن ميشال إده؟ هو كبير إلى حدّ كاف. انه يتمتع بكافة الاوصاف، الا انه لا يعرف كيف يتوقف عن الكلام. وهكذا واصل الرئيس شارل حلو سرد الأسماء ليعود فيذكر العيوب أو نقاط الضعف فيها. ومن الواضح انه مهتم بالموضوع. لقد أراد عرض المنصب عليه لكي تكون له، على الأقل، كلمته في العملية. هو رجل معتدل، وموثوق به من قبل الجميل وجعجع غير ان اسمه استبقي احتياطياً للحظة الأخيرة.

في هذا الوقت نفسه كان البطريرك صفير يتصل بالسفراء الأجانب لابلاغهم ان الحكومة الانتقالية ينبغي لها، في حال عدم اجراء الانتخابات، ان تكون برئاسة ماروني. كان شديد التشاؤم من الأحداث. وغير قادر على السيطرة عليها. وهو قال للوزير ايلي سالم: «ماذا استطيع ان افعل أكثر منذ ذلك؟»، واضاف: «لقد كتبت إلى ريغن، إلى ميتران، إلى الحبر الاقدس، ولم اتلقّ أي ردّ. إذا شاؤوا ان يتركونا وحدنا، فإن لهم ذلك سنقبله. استطعنا البقاء في الماضي، في الوديان، وعلى رؤوس الجبال. وسنتمكن من البقاء مرّة اخرى». ويقول ايلي سالم: «كنت انا أفضل الإبقاء على حكومة الحص وتوسيعها، وقد جاءني وسطاء من رأس بيروت لبحث هذا الخيار، ولكن الرئيس أصرّ على رئيس ماروني للحكومة. قال لي الرئيس انني لم افهم العقلية المارونية».

في 13 أيلول 1988، اعلن عن وصول مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط ريتشارد مورفي الى لبنان وسوريا للعمل على إيجاد مرشّح تتفق عليه دمشق والقيادات المسيحية.

ويقول كريم بقرادوني، انه في «يوم وصول مورفي إلى الشرق الأوسط، عقد اجتماع ضم الرئيس الجميل، وسمير جعجع وكريم بقرادوني، ومدير الاستخبارات في الجيش العقيد سيمون قسيس، وتم الاتفاق على تزويد مورفي بالأسماء الثلاثة المتفق عليها اي: رينيه معوض، ميشال إده وبيار حلو.. وفي اليوم التالي، أي في 14 أيلول أبلغت اللائحة إلى السفير كيلي، و«ان الدكتور ايلي سالم مستشار الرئيس الجميل اعطاه لائحة مغايرة تضم كلا من بيار حلو، ميشال إده ومانويل يونس بدلاً من رينيه معوض»، فأصر بقرادوني على اللائحة المتفق عليها، واصر كيلي على عدم تسلمها فسارع بقرادوني للاتصال بالرئيس الجميل وسمير جعجع، وبعد مراجعات مضنية تمّ الاتفاق على إبلاغ كيلي أربعة أسماء ليحملها مورفي إلى دمشق وهي: حلو واده ويونس ومعوض.

يوم 18 أيلول 1988 وصل مورفي إلى بيروت قادماً من دمشق، فاجتمع بالرئيس الجميل وابلغه الاتفاق على النائب مخايل الضاهر كمرشح لرئاسة الجمهورية وكان ديفيد نيوتن مساعد مورفي، مجتمعاً في الوقت نفسه مع العماد عون الذي رفض ما اسماه بـ«التعيين»، ثم اجتمع نيوتن مع جعجع وبقرادوني في منزل القائم بالأعمال الأميركي دانيال سمسون، فأبلغاه رفضهما للضاهر على أساس انه مخالف للمبادرة الأميركية.

ويقول بقرادوني في هذا الصدد: «في بداية الاجتماع تلا علينا ديفيد نيوتن محضراً مطبوعاً يلخص فيه مضمون المحادثات الأميركية – السورية وعرفت لاحقاً ان نسخة عن المحضر ذاته تمت قراءتها لأمين الجميل وميشال عون. وشرح لنا الدبلوماسي الأميركي ان المفاوضات مع دمشق كانت شاقة وطويلة، وقد عقد مورفي خمسة اجتماعات مع خدام كادت ان لا تصل إلى نتيجة حتى اللحظات الأخيرة، وكان المفاوض السوري في غاية التصلب، يطالب بالموافقة على الإصلاحات قبل الانتخابات والاتيان بسليمان فرنجية رئيساً للجمهورية. وبعد 18 ساعة وافق المسؤولون السوريون على ان يستبدلوا سليمان فرنجية بمخايل الضاهر كمرشح إجماع، وان يرجئوا البت بالاصلاح السياسي إلى ما بعد الانتخابات.. وختم الدبلوماسي كلامه بالقول: «حاول مورفي ان يحصل من دمشق على اسم مرشّح ثان فلم يوفق، نعرف ان ما نعرضه عليكم صعب، ولكن ننصحكم بالقبول.. اما مخايل الضاهر واما الفوضى».

في مساء ذاك اليوم عقد اجتماع موسع في منزل الرئيس الجميل في بكفيا حضره فريق عمله المؤلف من جوزيف الهاشم وايلي سالم وغسان تويني وسيمون قسيس وجميل نعمة، ورفيق شلالا وجوزيف أبو خليل وسمير جعجع وكريم بقرادوني وداني شمعون ونبيل كرم، ومارون حلو.

وتحدث الجميع فرفضوا نتائج محادثات مورفي في دمشق كما يُؤكّد كريم بقرادوني ما عدا جوزيف أبو خليل، الذي اقترح على الحضور التريث في الرفض وان يدرسوا إمكانية القبول بالضاهر.

وتردد ان القيادة والفاعليات المسيحية، التي كانت قد اجتمعت في بكركي، أوكلت إلى البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير مهمة اعداد لائحة أسماء مارونية تصلح لرئاسة الجمهورية، كان من بينها اسم النائب مخايل الضاهر.

(يتبع شروط الجميل

والقوات وعون)