لن يكون هناك وقف لإطلاق النار في لبنان وفقاً لشروط إسرائيل وإملاءاتها التي ترقى إلى أن تكون أسوأ من الاستسلام نفسه. ليس لأن لبنان واللبنانيين – وحزب الله وشركاءه وبيئته تحديداً – يرفضون ذلك فقط، بل لأن إسرائيل نفسها ليست في موقع يسمح لها بفرض إملاءاتها كما ترد من تل أبيب وواشنطن. قد تكون هناك تسويات تفرض تنازلات متبادلة، وهي معادلة نظرية سليمة، لكن أن تجبي إسرائيل من لبنان ما لا تريد أن تدفع ثمنه، هدف غير قابل للتحقق.
واحد من الشروط التي تطرح على طاولة البحث بين الشريكين، إسرائيل وأميركا، هو إيكال المهمة – في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار – للجيش اللبناني لاستكمال «تدمير» البنية التحتية لحزب الله في منطقة جنوب الليطاني. بمعنى، تحويل الجيش اللبناني، إلى يد إسرائيلية طولى للقيام بما لم يستطع الكيان القيام به.
بالطبع، يوجد في لبنان من تستهويه شروط كهذه ويسعى إليها، وهي في الأساس مطلب رئيسي له ولزوم وجوده واستمرار تلقيه الدعم من الخارج. وهناك، أيضاً، من في المؤسسة العسكرية، أو ممّن هو محسوب عليها، لا يمانع إيكاله المهمة ويريدها فعلاً، لكن بعد أن يتفق اللبنانيون عليها أولاً.
لكن كيف يقوى هذا الجيش على ضرب المقاومة وبنيتها التحتية؟ وماذا عن المقاومة وهل ترضى الانصياع؟ وماذا عن الجيش نفسه، ضباطاً وجنوداً، هل يريد أو هو معنيّ بمواجهة المقاومة وبيئتها؟ وكيف لجيش فيه مكوّن رئيسي مستمدّ من بيئة المقاومة أن يواجه هذه البيئة؟
الأسئلة في هذا البند الاستسلامي، الذي يستهوي البعض في لبنان، تطول جداً، لكن إجاباتها واضحة كثيراً.
البند الثاني الغريب هو «حق» إسرائيل في فعل ما تريد كي «تدافع عن نفسها» ضد حزب الله وقدراته وتهديده، سواء في لبنان أو في سوريا أو في أي مكان تراه مناسباً للعمل ضده. والغريب في ذلك أنه يراد من لبنان الرسمي أن يقرّ به، وأن يكون مكتوباً، وجزءاً لا يتجزأ من اتفاق وقف إطلاق النار.
المعنى، أن يقرّ لبنان، رسمياً، أن لإسرائيل أن تغير وتتوغّل وتغتال وتكمن وتخطف وتفجّر وتمنع وتحاصر، إذا أرادت، في كل الساحة اللبنانية، ليس على أساس حق الدفاع عن النفس الذي يحمل الشيء ونقيضه لجهة تفسيره وهو الذي لا يعطيها حق العمل الوقائي في لبنان، بل على أساس نوع من الاتفاقية الموقعة من لبنان الرسمي تسمح لها بالاعتداء عليه، من ضمن ما تراه هي، فقط، مناسباً لها.
والمفارقة أن «حقاً» كهذا لإسرائيل ليس غريباً في تاريخ الصراع معها. فهذا بند كان مطروحاً دائماً، وكان «حق» إسرائيل في عمل ما تريده في لبنان محفوظاً لها، سواء تناسب ذلك مع القوانين الدولية أو خالفها، وهو ما أدمنت على فعله منذ أن قامت في فلسطين المحتلة، اغتيالاً وإغارة وكمائن وخطفاً وحصاراً وتوغّلاً. وهذا «الحق» لم يأت باتفاق بطبيعة الحال، بل نتيجة القهر والقوة وفرض الإرادة بالوسائل العسكرية والتهديدات والتهويل على لبنان واللبنانيين، إضافة إلى مساندة الدول العظمى وفي مقدمتها الولايات المتحدة. الاستثناء لهذه القاعدة المعمول بها إسرائيلياً، كان في مدة تقرب من عقدين قبل الحرب الحالية، حين سُحب هذا «الحق» من إسرائيل بالقوة، بعدما فرضت المقاومة قواعد اشتباك جديدة ردعتها عن مواصلة استخدامه.
عملياً، تريد إسرائيل أن «تستعيد حقها»، وأن تكون لها حرية العمل في لبنان كما تشاء، لكن هذه المرة مع مبالغة في الطلب: إقرار لبنان خطياً به، أو إقرار الدول العظمى وموافقتها عليه، وفي المقدمة الولايات المتحدة، وربما أيضاً بقرار يصدر عن مجلس الأمن.
الأشد غرابة من الطلب الإسرائيلي نفسه، هو أن يجري الحديث والنقاش في لبنان، وإن في الغرف المغلقة، عن إمكانات وفرضيات وسيناريوهات إقرار ما يعطي إسرائيل ما تريده. هكذا أحاديث ونقاشات لن تجدي نفعاً، لكنها تبقى في مرحلة ما بعد الحرب راسخة في أذهان المقاومين وبيئتهم، ما سيتطلب مدة طويلة جداً لاستعادة الثقة بهؤلاء وتجاوز سيئاتهم.
كيفما اتفق، هكذا «حق» لا يأتي بالتهويل، بل يسحب سحباً. وهو لا يتشكل عبر اتفاق، وإن كان غريباً عن المنطق أن يناقش به، بل يفرض فرضاً. لإسرائيل القدرة النظرية على فرض هكذا «حق»، وهو ما قامت به في سنوات ما قبل قواعد الاشتباك بينها وبين حزب الله، تماماً كما للمقاومة القدرة النظرية على فرض «حق» مغاير، تماماً كما كانت عليه الحال قبل الحرب. المعنى أن هكذا «حق»، وهكذا قواعد اشتباك رادعة، تتحدد وبناء على مجريات الأمور والأفعال وردود الفعل والخشية من الأثمان وغيرها من المقدمات.
القدر المتيقن أن هذين البندين معدّان لمرحلة ما قبل الاتفاق على بنود وقف إطلاق النار. أي إنهما، وإن كانا منتهى آمال الإسرائيليين، إلا أنهما منتفيا الوجود سلفاً لتعذر إقرارهما وانتزاعهما من لبنان، وهذا التعذّر مستمد من أن المقاومة موجودة وغير ممكن إزالتها. والمفارقة هنا أن تحقيق هكذا بندين وفرضهما على الساحة اللبنانية يتطلب من إسرائيل أولاً اجتثاث حزب الله بقدرته وبيئته ووجوده الكلي والخاص في أكثر من ثلث الجغرافيا اللبنانية، وأكثر من ثلث اللبنانيين. فإذا تمكّنت من فعل ذلك، وهو من الأمور غير الواردة عملياً ومنطقياً، عندها يمكنها فرض الشرطين على لبنان. لكن ما الفائدة في حينه من الشرطين أساساً في حال أنهت هي المهمة؟
تبقى الإشارة إلى نقطتين اثنتين:
اشتراط إسرائيل إطلاق يدها في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب هو إقرار من تل أبيب نفسها، مسبقاً، بأنها غير قادرة على «توفير البضاعة» عبر حربها الحالية. وهو نوع من الإقرار بالعجز، في سياق محاولة تظهير القوة والاقتدار. ومن شأن ذلك أن يزيد ثقة الجانب اللبناني باقتداره ودفعه أكثر لاستمرار صموده ومنعته في حرب باتت تراوح مكانها وتقضم من ناحية إسرائيل إنجازاتها.
في السياق نفسه، تؤكد إسرائيل عبر هذا الشرط أن لا فائدة ولا نتيجة مرجوة من الرهان على خيارات لبنانية داخلية للعمل ضد حزب الله، وإلا ما كانت لتطالب ببنود تتطلب منها التدخل العسكري المباشر لاحقاً. كذلك، لا ثقة إسرائيلية في خيارات وبدائل من خارج لبنان لفعل ما تعجز عنه هي، فيما إيكال المهمة إلى الجانب الأميركي، لإكمالها في ما وراء الليطاني عبر الترهيب والترغيب والعقوبات والتهويل، لا تبدو من الأهداف القابلة للتحقق.
في حال بدأت إسرائيل تقترح صيغاً مبهمة أو يمكن تفسيرها باتجاهين للبندين والشرطين المذكورين، فهذا يعني إشارة منها، عملياً، إلى قرب انتهاء الحرب التي تشنها على لبنان، ليس لأنه قد اتضح لها بأنهما غير قابلين للتحقق، بل كإشارة على أنها لم تعد قادرة على مواصلة هذه الحرب، وأن خسائرها فاقت قدرتها على تحمل جراحاتها وكبت تظهير تداعياتها.