لم تكن يوماً مسألة تكوين السلطة في لبنان مسألة دستورية، تشكيل الحكومات وانتخاب الرؤساء وتكوين الأكثريات النيابية للتصويت على أي قرار مفصلي له تبعات إقليمية لم تكن أيضاً مسألة دستورية. ولا داعي للتذكير بالإملاءات الإقليمية والدوليّة في المحطات الرئاسية المتعاقبة منذ تأسيس الكيان اللبناني ولا بالتعثّر في إنتاج السلطة على مستوى تشكيل الحكومات في مرحلة صعود العمل الفدائي الفلسطيني ما بعد العام 1976 وتعثّر المجلس النيابي إزاء إتفاق القاهرة،مروراً بسياسة الهروب الى الأمام التي واكبت عهود الرؤساء من شارل الحلو الى أمين الجميل واستلزمت تطويع الدستور والصلاحيات لتتماشى مع ميزان القوى الذي فرضته وقائع الميدان والمتغيّرات الدوليّة في الإقليم.
إتفاق الطائف نجح في لحظة تقاطعت فيها المسارات الإقليمية والدوليّة في إرساء معادلة سياسية داخلية ارتكزت الى ثنائية قطبية، سوريا والمملكة العربية السعودية وحظيت بالرعاية الدولية.فلسفة الطائف لم تقم فقط علىإلزامية إرساء توازن في الضغوط الإقليمية المحيطة بلبنان بقدر ما استندت إلى استكانة الفرقاء السياسيين في لبنان الى تعديل قواعد الحوكمة وتجاوز الكيانية الضيقة التي أرستها دولة الإنتداب والتي،وبالرغم من ميثاق 1943،لم تعد تتناسب مع إلزامات التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا والسياسية.
الإجتماع السياسي الجديد الذي أرساه إتفاق الطائف في اللحظة السياسية المذكورة، ولا سيما من خلال التعديلات التي طالت صلاحيات رئيس الجمهورية وإلغاء الطائفية السياسية شكّل استجابة ًطبيعية لمتطلبات الخروج نحو العروبة الرحبة وقيم اليسار والإشتراكية الأوروبية ولا سيما الفرنسية،والإنعتاق من كيانية ضيقة وهيمنة مذهبية وطائفية سياسية مفروضة وقاتلة تجاوزها المجتمع اللبناني، بالرغم من الجولات الطائفية الخارجة عن السياق التي شهدتها الحرب اللبنانية في أكثر من منطقة والتي لم تكن تخاطب الوعي السياسي لغالبية اللبنانيين.
أرست دمشق قواعدها الخاصة في تطبيق إتفاق الطائف.العبث الدمشقي بتكوين السلطة في لبنان،ارتكز على محاكاة الغرائز السياسية في لبنان ورغبة السياسيين والطوائف في تعديل أحجامهم ومكتسباتهم بما يخدم تحالفاتها الإقليمية وطموحاته الدولية. ترافق العبث السوري مع تطور النفوذ الإيراني في كلّ من سوريا ولبنان والعراق، وتفاقم مع تطور التحالف الإيراني السوري ليفضي إلى فك الإرتباط بين الطائفة الشيعية واليسار، الذي مثّلت طليعته على مدى عشرات السنوات، وليلحقها بمشروع سياسي متأرجح بين النظام الأمني في دمشق وولاية الفقيه في طهران. تشكيل السلطة في لبنان كان دائماً يحاكي الطموحات الداخلية لحلفاء دمشق ويحاكي تحالفاتها الإقليمية وطموحاتها الدولية.
التحالف السوري الإيراني الذي حافظ على تماسكه مع انتقال مركز الثقل الى طهران بعد خروج الجيش السوري من لبنان في أيار من العام 2005 وخلال الحرب الأهلية في سوريا، إستمر بالتحكّم بالمعادلة اللبنانية، وجرت في ظلّ قواعده التسوية الرئاسية الاخيرة في لبنان والإنتخابات النيابية التي قلبت توازن القوى لصالحه وأضفت على إمساكه الأمني بالقرار السياسي غطاءً دستورياً.
أزمة تشكيل الحكومة تتزامن هذه المرة مع اشتباك وتداخل مجموعة من العوامل والمتغيّرات.تبدأ واشنطن تطبيق الرزمة الأولى من العقوبات على طهران تطال القطاع المصرفي وتجارة المعادن والبرامج الحاسوبية لتقليص مداخيلها ومنعها من تحويل الأموال الى ميليشياتها، وتعلن عن بدء الجولة المقبلة في نوفمبر والتي ستشمل قطاعيّ الغاز والنفط. وتتزامن العقوبات الأميركية مع انخفاض حادّ في قيمة الريال الإيراني وتظاهرات حاشدة ومواجهات غير مسبوقة مع الشرطة واعتراف رسمي إيراني بالآثار الإقتصادية لهذه العقوبات بما لا يوحي بقدرة إيران على الإستمرار في المواجهة. وفيما تلقي الشروط الأميركية بثقلها على النفوذ الإيراني في لبنان وعلى مستقبل سلاح حزب الله ودوره العسكري، وتحيي الشراكة التي أرستها روسيا في مرتفعات الجولان مع القوات الدوليّة بالتمدد الى الحدود اللبنانية الجنوبية بمعنى مشاركة روسيا في القوات الدوليّة المؤقته في جنوب لبنان، لا يتوقف حلفاء ايران في الداخل عن اطلاق الخطاب الطائفي ووضع العراقيل بوجه تشكيل الحكومة بما يحاكي الاحلام السابقة بالعودة الى ما قبل الطائف.
الشراكة السورية الإيرانية لا تبدو بأحسن حال،والرعاية الروسية للملف السوري لن تتيح للنظام اختيار مستقبل العلاقة مع طهران. تندفع دمشق لإظهار المزيد من القدرة على استعادة الملف اللبناني من خلال قضية اللاجئين والإستمرار في اقفال الطريق البري عبر معبر نصيب وإحداث إنشقاقات داخل البيئة الشيعية من خلال نوابها الجدد، بينما ينكفىء حزب الله محاولاً تقييم حساباته وتحالفاته ومشاركته في تكوين السلطة.
هل تبدو المتغيّرات الإقليمية والدولية مؤاتية لاستمرار التحالف السوري الإيراني في تشكيل السلطة في لبنان بما يحاكي غرائز الفرقاء اللبنانيين مع المحافظة على طموحاته الإقليمية؟