تأليف الحكومات في بلاد «الأرز» لا يزال أقرب إلى المُعجزة. فعلى الرئيس المُكلّف ان يخوض معارك «داحس والغبراء» في سعيه الى إيجاد توليفة تأخذ بعين الاعتبار حصص الطوائف والمذاهب وتمثيل الكتل النيابية وتمثيل النواب المنفردين (المستقلين) الذين يقتضي مكافأتهم لسبب أو آخر بتوزيرهم، وترعى تمثيل المناطق والاحياء وصولاً الى الحارات والأزقّة. وهكذا تدور المناورات السياسية وتطلق المواقف الناريّة إلى أن يرسي بازار المُحاصصة التوزيرية وخيارات الوزارات «السياديّة» والخدماتيّة على تشكيلة تقبلها القوى السياسة حتى يُقال انّ التوافق تمّ والمشاركة قد تحققت تحت مسمّى «حكومة وفاق وطني»!
بعد هذا المخاض العسير، يتم الانكباب على كتابة بيان وزاري تتدخّل فيه «أجناس الملائكة جمعاء» حتى إذا ما خُطّت سطوره وتصاعد الدخان الأبيض، سارع الرئيس إلى تلاوته في المجلس النيابي لطلب الثقة في جلسة قد تَلِدُ مطالب ودواوين من الهند والسّند، ناهيك بـ «سوق عكاظ» على مدى أيام، فإمّا ان تنال الحكومة الثّقة او تُسقط وتُحجب عنها (نظرياً لأنها لم تحصل في تاريخ المجلس النيابي). حتّى إذا تمّ منح الحكومة العتيدة الثقّة تبقى جُملةٌ من وعود البيان الوزاري حبراً على ورق بحيث تفتقد مقوّمات التطبيق الصالح والرشيد.
لماذا؟ لأن القوى السياسية الحاكمة ارست مفاهيماً سياسيةً في تشكيل الحكومات مبنيّةٌ على تقاطع المصالح والمحاصصة فيما بينها بحجّة «التوافق الوطني». فإذا ما تعارضت بعض المصالح، ينقلب التعاطي بالشأن الحكومي إلى أسلوبٍ فيه الكثيرُ من العصبية والكيدية والجهل، فيتم تجميد المشاريع وصولاً الى ان يصبح التعطيل الحكومي سيّد المشهد اللبناني. أمّا إذا فاض ودّ «الوفاق» بين أطراف الحُكم وانطلق العمل الحكومي، فغالباً ما تشوبه سياساتٌ «مرّق لي تا مرّق لك» وقواعد لا تستندُ الى دراسات دقيقة وذلك لأن معظم اعضاء الحكومة وفريق عملهم ليسوا من أصحاب الاختصاصات وتنقصهم الخبرة الإدارية وبُعد النظر الاستراتيجي. لذلك تأتي قرارات الحكومة ثقيلةً على كاهل المواطن اللبناني من غلاء معيشي وفرض ضرائب جديدة وارتفاع في نسبة البطالة وتراجع في الاستثمارات وتراجع في فرص التمويل والحصول على القروض. بل تؤدي السياسات العبثية وغياب المحاسبة على مر السنوات والعقود والحكومات المتعاقبة الى اهتراء ما تبقى من مؤسسات الدولة المُنهكة بسبب هدر المال العام والفساد الاداري والمؤسساتي والزبائنية العلنية التي تمارسُها القوى السياسية وغيرها من مسببات سقوط الدولة ممّا يفقد الحكومة اللبنانية القدرة على تنفيذ بنود البيان الوزاري. ومسببات غياب المحاسبة عديدةٌ، ومنها ان الأطر القانونية لا تُحترم في ضوء هيمنة القوى السياسية على القضاء وهيئات الاشراف، وتراخي «نواب الأمّة» في أداء واجباتهم الرقابية على العمل الحكومي، كونهم من نسيج القوى السياسية المشاركة في الحكومة والمجلس النيابي، وبعضهم يجمع بين الوزارة والنيابة، فكيف لهم أداء واجبهم في المراقبة والمحاسبة؟
وما يثير الدهشة في المشهد العام اللبناني هو صمت الشعب الذي لا يبدي أي رغبة في الانتفاض على واقعه المزري لأسبابٍ لعلّ أخطَرُها الزبائنية التي استَثمرت فيها الأحزاب اللبنانية على مدى نصف قرن فاستطاعت من خلالها وأد اي رغبة لدى الشعب في المطالبة بحقوقه المنتقصة واثّرت سلباً على سلوك الجماهير في لبنان. كما تعاني الجماهير ضعفاً في التنظيم لأن الخطاب الشّعبوي الطائفي يتملك تفكيرها وقد تمّ برمجتُها لتضع مصلحة الطائفة قبل المصلحة الوطنية ومصلحة «الزعيم» قبل مصالحها تحت مسمّى «الولاء للمرجعيّة». أياً كانت الأسباب فالنتيجة تتجلّى في انقسام الجماهير في لبنان لأنها عاجزة عن إيجاد هوية وطنية مشتركة تطغى على الارتباطات الأخرى بالطائفة أو المذهب ممّا يعزّز اعتماد الزبائنية والمحسوبية في النظام السياسي وتفشّي «المخالفات المدعومة»، الامر الذي يؤثر على جودة الاداء الحكومي، فيصبح الشعب جزئاً من المُشكلة.
تأليف الحكومة هي خطوة أساسية في الاتجاه الصحيح ولكنها غير كافية بحد ذاتها. فما هو الحلّ للنهوض بالوطن؟
هذا ما سنحاول تناوله والإضاءة عليه في الجزء الثاني من هذا البحث.