ينتظر اللبنانيون اليوم تشكيل حكومتهم بعد الانتخابات النيابية التي أجريت في أيار (مايو) الماضي. خلافاً لتوقعات وردية كانت ترى أن ولادة الحكومة ستكون باكرة، فإن مسار المواقف السياسية والمشاورات تبدو أكثر تعقيداً، ولا تبشر بهذه الولادة السريعة. لا ينفصل تشكيل الحكومة عن صراعات القوى الداخلية والتوازنات الجديدة التي أفرزتها الانتخابات، ونظرة كل طرف إلى موقعه في المعادلة السياسية. كما لا ينفصل التشكيل عن التدخلات الإقليمية في الساحة اللبنانية، وفرض معادلات جديدة، في ظل وضع عربي متفجر، يستحيل ألا تطاول سهامه الوضع اللبناني. فما هي هذه العقبات التي تقف عثرة في التشكيل، سواء منها ما كان داخلياً أم خارجياً.
منذ عقود ما بعد اتفاق الطائف، خصوصاً منذ زوال الوصاية السورية، كان تشكيل الحكومة يفتح مباشرة على أزمة نظام المحاصصة الطائفية، الذي كرسه اتفاق الطائف عام 1989، وهو نظام ترى فيه كل طائفة أن موقعها لا يندرج داخل الوطن بل يتجاوزه، وأن حقوقها يجب أن تؤخذ كاملة ولو على حساب الطوائف الأخرى. في كل حكومة يندلع صراع القوى الطائفية، بحيث يبدو النظام ومعه الكيان على شفير الانهيار، وهو ما يجعل فترة التشكيل تمتد لأشهر قبل أن تتوصل القوى الداخلية، وبعد ضغوط خارجية، إلى الخروج بتشكيلة حكومية.
بعد الأزمات المتتالية التي عصفت بنظام المحاصصة الطائفية، وما تولد عنها من فراغ في السلطة، توصلت القوى الطائفية إلى تسوية متجددة لاتفاق الطائف، وذلك في خريف عام 2016، وهي التسوية التي أتت بميشال عون رئيساً للجمهورية، وبسعد الحريري رئيساً للوزراء. على رغم ما شاب هذه التسوية منذ ولادتها من شكوك حول صفقات رافقتها، سواء على صعيد الحكم أم الاقتصاد، إلا أن هذه التسوية بدت أنها تمهد لنمط من الحكم مغاير للتقاليد اللبنانية، سواء على صعيد التوازنات الداخلية أم على صعيد ممارسة السلطة خلافاً لما تنص عليه القوانين اللبنانية. وقد كان الانحراف نحو تكريس حكم رئاسي هو السمة التي صبغت تسوية عام 2016.
أفرزت الانتخابات النيابية موازين قوى مشابهة لما كانت عليه في السابق مع بعض التعديلات الطفيفة. منذ البدء بالحديث عن تشكيل الحكومة، أعلنت قوى الحكم عن نيتها في الهيمنة على القرار السياسي للبلد، وعن تشكيل ما يشبه النظام الرئاسي. تجلى ذلك في الإفصاح عما يمكن إعطاؤه لهذا الطرف، أو ما لا يمكن. وبدأ أركان الحكم، خصوصاً من يدور في فلك الرئاسة، يمارس سلطة لا تقع ضمن صلاحياته، في خطوة تريد تكريس أمر واقع مخالف لنصوص اتفاق الطائف. في المقابل، اندلع صراع القوى الطائفية الساعية كل منها إلى نيل حصة أساسية في الحكم، والمستعدة لتعطيل التشكيل إذا لم تُلبَّ مطالبها. هــكذا يقف كل طرف عند متراسه، غير مستعد للتنازل، في وقت تسرح المخالفات والصفقات من الحكومة المستقيلة بسرعة فائقة. هذا على الصعيد الداخلي.
أما على الصعيد الإقليمي، فقد عادت الوصاية السورية لتحجز موقعها داخل السلطة اللبنانية. فرضــــت على أنصارها مرشحين معينين وأتت بهم إلى سدـــة البرلمان. فتحت ملفات مثيرة للجدال، من قبيــــل التنسيق السوري اللبناني، ومن مدخل النازحين السوريين إلى لبنان، مستندة إلى قوى داخلـــيــة لا تزال تدين لها بالولاء، خصوصاً الإفادة مـــــن موقع الرئاسة والقوى التي تواليها. ليست الأصــــابع الســـورية بعيدة من التعثر الحكومي، كما أن الشــروط السورية، المستور منها والمعلن، ستكون حاضرة في التشكيلة الجديدة وفي بيانها الوزاري.
في المقلب الآخر، الإيراني منه في شكل خاص، يجب عدم الاستهانة بتصريحات قائد الحرس الثوري عن «حكومة مقاومة»، وعن أن حزب الله يملك عدداً من النواب يصل إلى 74 نائباً، أي أكثر من نصف عدد أعضاء المجلس، بما يسمح له بفرض القوانين التي يرغب في إقرارها. التصريح يعبر عن توجهات إيرانية تجاه الساحة اللبنانية، ضمن وجهة ترى في هذه الساحة المنطلق للتدخلات الإقليمية. يأتي هذا الاهتمام بعد شعور نظام طهران بأن ما يحصل على الساحة السورية سائر إلى خروجها ومعها ميليشياتها من هذه الساحة. كما أن النفوذ الإيراني في اليمن سائر إلى الانحسار بعد التطورات الميدانية الأخيرة. أما الوجود والنفوذ الإيرانيان في العراق، فهما موضع صراع طائفي وقومي في الوقت ذاته. تبقى الساحة اللبنانية الوحيدة الهادئة، وتملك فيها النفوذ بلا منازع. وعندما احتسب سليماني العدد، لم يكن يتحدث من فراغ. فإضافة إلى الكتلة الشيعية، احتسب معها كتلة رئيس الجمهورية التي لا تخرج عن توجهات «حزب الله»، كما احتسب النواب التابعين أصلاً للوصاية السورية. لذا، يجب عدم الاستهانة بهذه المعادلة الجديدة، وهي معادلة تتدخل الآن بقوة في تشكيل الحكومة وفرض التوجهات السياسية التي تريد.
تبقى كلمة عن الرئيس المكلف، يسود كلام منذ التسوية الرئاسية، أن الرئيس المكلف يمارس سلطة سمتها التنازل المتتابع من أجل أن يبقى رئيساً للوزراء، ويشارك في الصفقات الموعودة. لذا، يبدو موقع رئاسة الحكومة اليوم في موقع الأضعف في الصراعات الفئوية الدائرة من أجل اقتسام السلطة.