Site icon IMLebanon

مواطن سابق من اللامكان..  أو لبنان

ماذا سيحدث الأسبوع القادم؟.. وما هي التوقعات ومسارات الأحداث في مجمل السّاحات الملتهبة والمتحفّزة والمختبئة؟..  وما هي التّطورات الميدانية للنّزاعات المسلحة في أكثر من مكان؟.. ماذا يحدث داخل بيئات النازحين وأي  قوة يائسة تتكوّن؟.. وما هي الأثمان الانسانية والأخلاقية التي يدفعها أهلنا النازحون؟.. ولقد خبرنا لعقود طويلة تطورات إخواننا الفلسطينيين المأساوية.. إلى أين سيذهب التّحالف الدولي لمحاربة الإرهاب؟.. وما هي أدواته لتحقيق الإنتصارات السياسية والفكرية والأخلاقية والحكومية وأيضاً العسكرية؟.. وهي حتماً في آخر القائمة لأنّ الإرهاب لا يحارب بالطائرات..

تلك الأسئلة وغيرها يجب أن تكون بديهية لدى كلّ كاتب.. وأيضاً يجب أن تكون من بديهيات كلّ قارئ.. وعلى الكاتب أن يبحث عن الإجابات.. وعلى القارئ إن لم يجد إجابات على أسئلته أن يتوقف عن القراءة..  وأنا أسأل نفسي كلّ أسبوع هل ما أكتبه مفيداً أو صحيحاً.. أم أنّني أكتب تهيئات وتمنيات وأحقاد ومودات.. وهل تسمح ظروفنا المأساوية واللاعقلانية بذلك؟.. علينا أن نتخلص من الشاطر حسن ومن جحا وأخوت شناي وعلي بابا والأربعين حرامي وكلّ تلك الشخصيات العدمية في ثقافتنا ونهجنا السياسي منذ ما يقارب المئة عام..

كلّ الكيانات يبنيها الخبراء إلا الأمم والأوطان والدول يبنيها عموم الأفراد.. وللأسف الشديد جميع الأفراد أسرى لدى الطوائف والجماعات الطائفية التي لا يمكن أن تبني دولة لأنّ وجودها قائم على تفكيك الهوية الوطنية.. مما يجعل قيام الدولة الوطنية حتى بأسوأ أشكالها أمرا ً مستحيلاً.. لذلك نعيش حالاً من الهيولة الوجودية..  يعني أنّنا موجودون تقريباً لأنّنا الآن لا نعرف أنفسنا إن كنّا مواطنين لبنانيين أو مستوطنين طائفيين.. وعلى الرغم من عجائبية وغرابة هذا الحال إلاّ أنّه يصلح للتعبير عن حالنا جميعا فرداً فرداً مع الأسف الشديد..

ما حدث يوم الأربعاء الماضي في مزارع شبعا  وما سمعناه من الجميع بدون استثناء خير دليل على تلك الهيولة الوجودية لدى الشخصية الوطنية اللبنانية.. فإن كلّ ما سمعناه وكلّ ما قرأناه  ممكن أن يكون الآن وممكن أن نكون قد سمعناه لسنوات طوال طوال.. الشيء الوحيد الحقيقي خلال ذلك اليوم هو القلق والخوف والذكريات الحافلة بالآلام.. ورغم ذلك استمرت الحياة وانتقلنا فوراً إلى موضوعات أخرى  وكأنّ الذي جرى ما كان رغم أنّ ما حدث في مزارع شبعا بالغ الدقة وعميق المعاني وذات طابع إستراتيجي.. وأنّه صدى لتحوّلات كبرى في مسارات الحرب والسلم التي وضعت قواعد اضطرابها منذ العام ٨٢  حتى الآن..

أعتقد بأنّ أكثر من يفهم هذه الحقائق هم أولئك الذين اتخذوا القرارات باغتيال الأفراد لأنّهم وحدهم كانوا يعرفون أهمية ومدى تأثير أولئك الافراد على مسار الدول والمجتمعات..  وأعتقد أنّهم الأكثر ندماً الآن لأنّ مراكبهم وطائراتهم تترنح وتغرق بعد أن قتلوا كلّ الربان.. ولذلك جاءت المبادرة الفردية أساس الدولة الحديثة المتطورة وهي للأفراد الخلاّقين والمبدعين وليس للحمقى المدمرين..

التّطبيع كان أسوأ مفردات الصراع في العقود الماضية لأنّه من مواليد الصلح مع العدو الإسرائيلي.. والحقيقة أنّ التجربة الوحيدة الفاشلة في اتفاقات السلام هي التّطبيع  لأنّ الإسرائيليين اكتشفوا بأنّه عليهم أن يستعربوا أي أن يتطبّعوا ويتكيّفوا مع الهوية العربية.. لأنّه من غير الممكن أن يتصهين العرب.. وهذا ما تعانيه إسرائيل جيداً بين الأشكيناز والسفرديم.. وتلك كانت مأساة كلّ الذين اجتاحوا واحتلوا من المغول إلى الآن فلم يكن أمامهم جميعاً لكي يبقوا سوى أن يستعربوا.. ومتلهم متايل  من أعراق وقوميات وأجناس وألوان وأديان ونزاعات وحضارات.. كلّها ذابت في هذه الهوية الإنسانية العظيمة والمتصالحة مع التّنوع والتّعدد العرقي والديني والقومي بإنسياب عظيم على مدى قرون طويلة.. فالعرب مسلمون ومسيحيون يسكنون لغتهم وثقافتهم العربية أكثر من أرضهم..

أعتذر من كلّ أصدقائي الطائفيين الذين أحترمهم وأقدر عالياً قدراتهم وأفكارهم وعلمهم وثقافتهم..  وأدرك مدى حزنهم لتأقلمهم مع واقعهم الطائفي السّياسي..  وأنا واحد منهم إلاّ أنّني على يقين بأن تطبّعنا بطائفيتنا سيؤدي إلى نهايتنا جميعاً ودمارنا وسنلتحق بجيراننا..

تقودنا الغوغاء وتأخذنا إلى أيام كنّا نريد جميعاً أن ننساها وتمنينا ألاّ يشاهدها شاباتنا وشبابنا كما شاهدناها عشية ١٣ نيسان ٧٥.. يوم تسابقنا نحو الهاوية بكلّ حماقة وهبل وقلة إدراك  لأهمية الكلّ وبدون استثناء.. فسَهُلَ علينا القتل والعزل والإلغاء والاستئثار والإدعاء.. وكنت قد بادرت إلى توجيه أكثر من صرخة وأكثر من نداء وأكثر من اجتماع.. وهذا ما يحتّم عليّ الإعتذار من كلّ الأصدقاء لأنّه يصحّ فينا قول الشاعر: «لقد أسمعت لو ناديت حياً  ولكن لا حياة لمن تنادي»..

بعد هذا الكلام الذي أقصد به كلّ اللبنانيين ولا أقصد به أحداً  في نفس الوقت..  لأنّنا جميعاً موجودون وغير موجودين..  ونعرف ولا نعرف في نفس الوقت.. وهكذا دواليك في كلّ أمر.. ملائكة وشياطين.. مخلصين ومجرمين.. جائعين ومتخمين.. فهذا ما يشعرني بأنّي مواطن سابق من اللامكان.. وأشعر أحياناً بحنين شديد إلى وطني لبنان.. أو اللامكان..