IMLebanon

الرؤساء السابقون: أمر الطائفة لنا

 

تحوّل الرؤساء السابقون للحكومة مرجعية سنّية، صاحبة الكلمة الفصل في مواقف الطائفة وخياراتها. ما بين 4 أيلول 2019 و25 آب الفائت أناطوا بأنفسهم – وكانوا لا يزالون ثلاثة – الدفاع عن الصلاحيات الدستورية لرئيس مجلس الوزراء وموقعه. اليوم هم أكثر من ذلك

 

عندما نشأ تجمّع الرؤساء السابقين للحكومة، كان الرئيس سعد الحريري لا يزال في السرايا. بعد خروجه منها – وقد أضحى رئيساً سابقاً – انضمّ الى أسلافه: نجيب ميقاتي، فؤاد السنيورة وتمام سلام. بادئ بدء، إبان وجوده في الحكم، أزعجه دورهم. بدوا له ينافسونه على زعامة طائفة اعتادت منذ مطلع التسعينيات على زعيم واحد لها، هو الرئيس رفيق الحريري حتى اغتياله، رئيساً للحكومة ثم زعيماً سنّياً ألغى القيادات السنّية الأخرى أو أضعفها. لم يتردّد في الإقدام على ما لم يتجرأ عليه أي زعيم سنّي آخر، وهو إسقاط رئيس حكومة منافس له كالرئيس سليم الحص في انتخابات 2000.

 

بعد اغتيال الحريري الأب عام 2005 حتى الأمس القريب، مرّت الزعامة السنّية، الفاقدة المرجعية الصلبة المتماسكة القوية والجامعة، بتقلّب راح يتكرّر. لم تتوحّد صورتا رئيس الحكومة والزعيم إلا بتقطّع، عندما يترأس الحريري الابن الحكومة (2011 و2016 و2019). سوى ذلك يكون المشهد مختلفاً مزدوج الدور: عندما ترأسها السنيورة مرتين (2005 و2008) وميقاتي مرتين (2005 و2011) وسلام مرة (2014)، كانت زعامة الطائفة والشارع خارج السرايا، عند الحريري الابن. ذلك ما فسّر، قياساً بما رافق الحريري الأب وكان استثناءً غير مسبوق، القول من داخل الطائفة إنها ضعيفة، أو مستضعفة، ومستهدفة. بعد انتخابات 2018 التي أوغلت في إضعاف الحريري الابن، وأفقدته السيطرة على كل الكتلة النيابية السنّية، صار لسنّة الأطراف موقع منافس له، وخصوصاً أن هؤلاء اقترنوا بالتحالف مع حزب الله، نواباً كعبد الرحيم مراد في البقاع الغربي وفيصل كرامي في طرابلس وأسامة سعد في صيدا، ومن خارج البرلمان أشرف ريفي في طرابلس. التعدّدية السنّية هذه، هي القاعدة وليست الاستثناء حتى وصول الحريري الأب إلى السرايا.

 

في عقود الاربعينيات حتى التسعينيات، كان من السهولة بمكان تعايش المنافسة السياسية والانتخابية بين رياض الصلح وسامي الصلح وأحمد الداعوق وسعدي المنلا وحسين العويني وعبد الله اليافي وصائب سلام ورشيد كرامي وتقيّ الدين الصلح ومعروف سعد ورشيد الصلح وأمين الحافظ وسليم الحص وشفيق الوزّان وسواهم. تنافسوا نواباً وزعماء. تحمّل بعضهم البعض الآخر، ولم يفكر في إلغائه.

نشأت «قمة عرمون» حالة طارئة مستجدة عام 1975، ثم اختفت. كانت خليطاً سنّياً – شيعياً – درزياً انضم إليها عبد الحليم خدام وياسر عرفات كشريكين فعليين في قراراتها، وفرضت رشيد كرامي رئيساً لآخر حكومات سليمان فرنجية عامذاك. منذ النصف الثاني من السبعينيات حتى ما قبل نهاية الثمانينيات، نشأ «التجمّع الإسلامي» تحت عباءة المفتي حسن خالد، ضمّ – الى الرؤساء السابقين للحكومة – شخصيات سنّية معروفة نواباً ووزراء حاليين وسابقين. لم يَسَع «التجمّع الإسلامي» فرض إرادته، إلا أنه وازن ما بين دوره ودور «الحركة الوطنية» في الشارع الإسلامي و«الوطني» تبعاً للصفة الرائجة وقتذاك. انطفأ تدريجاً بالتناقص بين وفاة أعضاء فيه أو اغتيالهم أو هجرتهم.

يستعيد الرؤساء السابقون للحكومة، الحاليون، دور «التجمّع الإسلامي» أكثر منه «قمة عرمون» المختلطة، لكن بلا مظلة مباشرة لدار الفتوى، دونما الانفصال عنها.

بفضل الحريري الابن نشأ تجمّع الرؤساء السابقين الثلاثة. لكن أيضاً بفضل رئيس الجمهورية ميشال عون، وكان كل من الثلاثة قد عانى منه إبّان ترؤسه الحكومة، سواء كرئيس كتلة نيابية كبيرة أو بفعل صهره النائب جبران باسيل وزيراً في حكوماتهم. رفضوا تسوية الحريري مع عون عام 2016، فبدوا في المقلب الآخر منه. بعد انتخابات 2018 وتكليف الحريري ترؤس الحكومة، بدأ الخلاف معه وهم في الوقت نفسه ظهيره. اجتمعوا به ثلاث مرات في بيت الوسط: أولى في 30 حزيران، وثانية في 4 أيلول، وثالثة في 21 تشرين الأول. في المرة الثانية، استهجنوا بياناً أصدره عون ضمّنه «ملاحظات» على مسودة أولى لحكومته سلّمها إليه الحريري في اليوم السابق 3 أيلول. لم يكن ميقاتي والسنيورة وسلام، للمصادفة، في لبنان. تبادلوا مكالمات هاتفية من أماكن وجودهم في الخارج، وصاغوا بياناً دان ملاحظات عون، ووزّعوا صورة قديمة تجمعهم للإيحاء بأن البيان انبثق من اجتماعهم، فيما هم خارجاً. كانت حجتهم حينذاك أن رئيس الجمهورية ليس شريك الرئيس المكلف في تأليف الحكومة: إما يوقّع التشكيلة أو لا يوقّعها.

مذذاك راح دورهم يصعد. لا يتدخّلون إلا في لحظات شعورهم بأن صلاحيات رئيس مجلس الوزراء مستهدفة أو تتعرض للافتئات. عندما استقال الحريري في تشرين الأول 2019، رفضوا الأسماء المتداولة لخلافته، وأصرّوا عليه. تشبّثه بعدم العودة الى السرايا، حمل الغالبية النيابية على اختيار حسان دياب رئيساً مكلفاً. يومذاك تعذّر عليهم تعطيل هذا الترشيح، فقاطعوا دياب. كذلك فعلت دار الإفتاء في موقف متناغم. في نهاية المطاف، بعدما أسقطه تخلي طائفته عنه، تركته الغالبية النيابية في منتصف الطريق، فاستقال. أخيراً، سمّى الرؤساء السابقون الأربعة السفير مصطفى أديب رئيساً مكلفاً، فدخلوا طوراً غير مسبوق.

ليسوا وحدهم وراء اسم أديب. اختارته بداية باريس، ثم تولى الحريري – بفعل تواصله المفتوح معها – طرحه على رفاقه الثلاثة، فتبنّوه بعدما تداولوا أسماء قضاة وضباط وموظفين كبار سنّة. بذلك يقع اختيار الرئيس المكلف عند تقاطع غير مألوف: أن يكون من اختيار طائفته بإجماع قيادتيها السياسية والدينية، وفي الوقت نفسه انبثق من خيار الرئيس إيمانويل ماكرون. الواضح أن تعامل المفتي عبد اللطيف دريان مع كل من دياب وأديب أفصح عن أن الدار مرآة الدور الذي يضطلع به الرؤساء السابقون.

على غرار الثنائي الشيعي، صاحب الكلمة الفصل في ما يخص طائفته، أضحى هو الآن كذلك لتأكيد حقّ الطائفة في اختيار ممثلها، لا الغالبية النيابية المناوئة لها. للمرّة الأولى منذ «قمة عرمون»، يأتي ترجيح الخيار من مرجعية سنّية بحتة جديدة: ليست دار الإفتاء، ولا الزعيم الأكثر تمثيلاً لطائفته هو الذي أتى رئيساً مكلفاً أو هو سمّى خلفه، ولا نتائج الانتخابات، ولا حتماً الغالبية النيابية المقيمة على طرف نقيض من الرؤساء السابقين. من ذلك أضحوا المرجعية السنّية المسموعة الكلمة، مع أن لكل منهم أكثر من مشكلة عويصة مع عون والرئيس نبيه برّي وحزب الله وباسيل، وحتى داخل الطائفة نفسها كنهاد المشنوق وفيصل كرامي وأشرف ريفي وسواهم.

 

مطلوب من الرئيس المكلف الخروج من اتفاق الدوحة، والعودة إلى اتفاق الطائف

 

 

يقول سلام: «نحن نراهن على الفرصة التي قدّمها الرئيس إيمانويل ماكرون – وهي ذات غطاء دولي وإقليمي – مقدار رهاننا على الرئيس المكلف. المأزق كبير للغاية وصعب. نحن في طريق الانهيار، والتأكيد أننا دولة فاشلة في ظل الاحتدام الإقليمي. الفرصة المُراهن عليها هي مبادرة الرئيس الفرنسي التي لا يسع أحداً التنكر لها، أو تجاهلها، أو التصرّف بحرد كما فعل البعض بالإصرار على استمرار حكومة تصريف الأعمال الى ما شاء الله. الفرصة الفرنسية واضحة المعالم، يبدو أننا نسير على طريقها: حكومة مصغّرة، وزراء اختصاصيون، لا وجود للأحزاب فيها، تؤلف في أسبوعين. لا أحد محايد في السياسة، لكن المطلوب حكومة لا تسميها الأحزاب، ولا يكون وزراؤها أعضاء فيها. لكن طبعاً ليس على صورة وزراء حكومة دياب المستقلين، لكنهم من صنع الأحزاب التي طلب ماكرون هذه المرّة تنحّيها».

يضيف: «لا خطوط حمر وضعناها أمام الرئيس المكلف، سوى حماية موقع الطائفة في السلطة والدفاع عن صلاحياتها. ما نطلبه من رئيس الحكومة أن يضرب بقبضته على الطاولة. أن يخرجنا من اتفاق الدوحة، ويعيدنا الى اتفاق الطائف والدستور. لا ثلث معطلاً، ولا حصة لرئيس الجمهورية، ولا حصراً للحقائب بأطراف محدّدين، بل فرض المداورة على نحو ما حصل مع حكومتي أنا. مداورة شاملة. نريده هو أن يؤلف حكومته لأنها الصلاحية التي أناطها به الدستور، وأن نخرج من كل الأعراف وخصوصاً تلك التي أحدثها رئيس الجمهورية».