أربعون عاماً مرّت على تغييب الإمام السيد موسى الصدر ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين على يد النظام الليبي السابق. مرور الزمن لم يسقط القضية. توقيف هنيبعل معمر القذافي في لبنان منذ نحو ثلاث سنوات، كان يفترض أن يعطي قوة دفع للتحقيق، لكنه يصرّ على الربط بين أي معلومة يدلي بها وضمانةِ الإفراجِ عنه!
منذ زيارة وفد لجنة المتابعة الرسمية اللبنانية لقضية الإمام السيد موسى الصدر ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين إلى ليبيا في منتصف عام 2016، لم يطرأ أي جديد. هذا الجمود الذي يلف القضية يقابله تحريك دائم لملف توقيف هنيبعل معمر القذافي في لبنان منذ كانون الأول 2015. وللتذكير، فإن القذافي استدرج من سوريا إلى منطقة البقاع، في عملية بوليسية اتهم بتنفيذها نجل الشيخ يعقوب، النائب السابق حسن يعقوب. لم تمض أيام قليلة حتى تم تحريره على يد شعبة المعلومات التي نقلته إلى مقرها الرئيسي في مقر المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي في الأشرفية. حينذاك، طلب المحقق العدلي الناظر في قضية الصدر، القاضي زاهر حمادة، الاستماع إليه كشاهد في قضية تغييب الصدر. وما لبث حمادة أن أوقفه بمذكرة وجاهية بتهمة كتم معلومات والتدخل اللاحق في جرم خطف الصدر ورفيقيه. وبهذه التهمة، اتخذت عائلة الصدر ضده صفة الادعاء الشخصي قبل نحو عامين.
خلال التحقيق، ظلّت إفادة هنيبعل تتراوح بين إنكار اطّلاعه على أي معلومة تتصل بالملف لأنه كان في الثانية من عمره في عام 1978 وبين ربطه الإدلاء بأي معلومة مقابل الإفراج عنه. من هنا، لم تتكرر عملية استجوابه من قبل مقرر لجنة المتابعة الرسمية لقضية الصدر ورفيقيه القاضي حسن الشامي (استجوبه مرة واحدة بعد توقيفه). وقالت مصادر مواكبة للقضية لـ«الأخبار» إن من يملك معلومات مفصلية «هم رجالات الاستخبارات الليبيين والحلقة القريبة من معمر القذافي آنذاك، مثل عبد الله السنوسي وعبد السلام جلود».
تهمتان إضافيتان
قضائياً، في شهر آذار الفائت، أصدرت محكمة استئناف الجنح في بيروت برئاسة القاضية رولا الحسيني قراراً قضى بفسخ الحكم الابتدائي الذي سبق أن صدر عن القاضي المنفرد الجزائي في بيروت غسان خوري، بإبطال التعقبات في حق هنيبعل بجرم تحقير القضاء وإهانة المحقق العدلي الناظر في قضية الصدر. الحكم الصادر عن الحسيني قضى بحبس نجل القذافي لمدة سنة وثلاثة أشهر وتغريمه مليوني ليرة لبنانية. العقوبة بعد احتساب مدة التوقيف في قضية التحقير، تنتهي يوم غد الجمعة.
وقبل أكثر من شهر، أصدر قاضي التحقيق في بيروت ريتا غنطوس قراراً بمنع «الكابتن» (اللقب الذي يعرف به هنيبعل في ليبيا كونه كان من المهتمين بالرياضة) من السفر خارج لبنان لمدّة سنة كاملة، وذلك في إطار الدعوى المقامة ضده وضد آخرين في ليبيا من قبل المواطن حسين حبيش بجرم تأليف عصابة إرهابية وخطفه وحجز حرّيته ومحاولة قتله والتدخّل في هذه الجرائم خلال وجود حبيش في ليبيا الذي تمكن من الفرار والعودة إلى لبنان. هاتان التهمتان أضيفتا إلى التهمة الأساس المتعلقة بالصدر ورفيقيه، علماً بأن هنيبعل صار بلا وكيل للدفاع عنه، بعد عزله وكيلته السابقة بشرى الخليل واعتزال كل من المحاميين أكرم عازوري وصخر الهاشم الدفاع عنه.
وما دام القذافي قد انتقل من مرحلة التوقيف إلى مرحلة المحاكمة، فلماذا لا يزال محتجزاً في مقر فرع المعلومات ولم ينقل على الأقل إلى سجن المعلومات في سجن رومية؟. «لا ادري لماذا»، يؤكد مقرر اللجنة القاضي حسن الشامي. «لا أنا ولا المحقق العدلي ولا الرئيس نبيه بري ولا عائلة الإمام تدخلنا في مكان الاحتجاز، ولا مشكلة لدينا أين يحتجز». وقال مصدر أمني لـ«الأخبار» إن السلطات القضائية والأمنية والسياسية متوافقة على إبقاء هنيبعل في الأشرفية حماية له، «بسبب وضعه الحساس أمنياً في لبنان».
ليبيا لا تتعاون
ماذا عن كشف مصير الصدر؟ يؤكد الشامي لـ«الأخبار» أن هنيبعل يعرف معلومات يمكن أن تؤدي إلى كشف مصير الصدر ورفيقيه. لكن «الكابتن» (هنيبعل) يتكتّم. وماذا عن قيادات النظام الليبي السابق التي التقاها الشامي في ليبيا وخارجها من موسى كوسا إلى عبدالله السنوسي و أحمد قذاف الدم؟ يؤكد الشامي أن الليبيين «أقلعوا عن كذبة إنكار اختفاء الصدر ورفيقيه داخل الأراضي الليبية ورميها على إيطاليا».
إثر سقوط نظام القذافي عام 2011، تبلغت اللجنة اللبنانية معلومات مهمة حول ملابسات الاختفاء. يتحفّظ القاضي الشامي عن ذكرها حفاظاً على سرية التحقيق. في عام 2016، زار وفد من اللجنة برئاسة الشامي المدعي العام الليبي في طرابلس الغرب، بناءً على اتفاقيات سابقة بالتعاون بين السلطات الليبية واللبنانية. قابل الشامي موقوفين بتهم تتعلق بقضية الصدر، وأبرزهم نجل القذافي الساعدي. لم تتكرر الزيارة لاحقاً «بسبب الظروف الأمنية والسياسية في ليبيا»، كما يقول الشامي.
هل يُسلّم هنيبعل إلى سوريا؟
تبرز وثيقة حصلت عليها «الأخبار» تفيد بأن المحامي العام الأول في دمشق أحمد السيد قد أرسل في 15 كانون الأول 2015 (أي بعد 9 أيام على خطف القذافي) كتاباً إلى المدعي العام التمييزي في بيروت يفيد بأن القذافي «اختطف من قبل عصابة مجهولة وتم تهريبه بصورة غير مشروعة إلى لبنان، علماً بأنه مقيم في سوريا بشكل شرعي وحاصل على حق اللجوء السياسي منذ فترة»، وختم المحامي العام كتابه بعبارة: «يرجى العمل على تسليمه إلى السلطات السورية». ذلك الكتاب أرفق ربطاً بكتاب مماثل صادر عن النائب العام السوري القاضي خلف حسين العزاوي حمل المضمون والتاريخ نفسيهما.
وبحسب مصادر معنية، قام السفير السوري في بيروت علي عبد الكريم علي بأكثر من زيارة تفقدية لهنيبعل القذافي في مكان احتجازه، بتكليف من القيادة السورية، وزار علي أيضاً رئيس مجلس النواب نبيه بري، مؤكداً له طلب بلاده استرداد هنيبعل القذافي، من دون أن يلقى أيّ تجاوب من رئيس المجلس النيابي، إلا أن ذلك لا يحجب حقيقة استمرار المحاولات الهادفة إلى إيجاد تسوية أو مخرج للقضية، في ظل الحساسية السورية الفائقة في مقاربة الملف.
تقول المصادر المعنية إن إجابة السلطات اللبنانية على الطلب السوري جاءت على الشكل الآتي: أولاً، إن هنيبعل مطلوب للإنتربول الدولي بموجب مذكرة صادرة عام 2012. ثانياً، إن عائلة الصدر تتمسك بتوقيفه، لأنه يمتلك معلومات من شأنها المساعدة في كشف مصير الإمام المغيب ورفيقيه.
توافق على إبقاء هنيبعل في الأشرفية حماية له «بسبب وضعه الحساس أمنياً في لبنان»
بالنسبة إلى مذكرة الإنتربول، قدمت وكيلة الدفاع السابقة عن القذافي بشرى الخليل مذكرة إلى المدّعي العام التمييزي القاضي سمير حمود، بعد أسبوعين من توقيفه، تفيد بأن وزارة العدل في الحكومة الليبية نهاية عام 2014 أوقفت ملاحقة عائلة القذافي والقيادات الليبية في النظام السابق التي استند إليها الإنتربول في إصدار مذكرته. مع ذلك، كان الموقف اللبناني في الإبقاء على هنيبعل ومحاكمته حاسماً، وخصوصاً من الرئيس بري وعائلة الصدر. ولم تنفع المراجعات السورية أو الليبية.
والجدير ذكره أنه عقب توقيف هنيبعل، زار وفد من وزارة العدل الليبية بيروت والتقى الجهات اللبنانية المعنية بالقضية (وزير العدل أشرف ريفي والقاضي سمير حمود). لكن ما لبث أن قام الأمن العام اللبناني بترحيله «بسبب وجود تهديدات أمنية محدقة بالوفد»، كما زار وفد من القبائل والمدن الليبية العاصمتين اللبنانية والسورية في ربيع عام 2017، للغاية نفسها.
وفي نيسان 2017، قرر وزير العدل سليم جريصاتي وضع يده على الملف، وأرسل كتاباً إلى القاضي حمود يطلب فيه إفادته عن السند القانوني لتوقيف القذافي وعن المواد الجرمية الملاحق بها. في السياسة، وضع البعض مبادرة جريصاتي في إطار الكباش بين التيار الوطني الحر والرئيس نبيه بري. لكن وكيل القذافي السابق المحامي صخر الهاشم قال إن رئيسي الجمهورية والحكومة ووزير العدل اتخذوا قراراً بضرورة إنهاء ملف القذافي، «كونه معتقلاً وليس موقوفاً». لاحقاً، تبين أن زوبعة جريصاتي «كانت بدفع من القصر الجمهوري الذي تلقى مراجعات سورية رفيعة المستوى وكذلك ليبية للتدخل في القضية من دون جدوى»، على حدّ تعبير المصادر المعنية.
وإزاء إصرار الجانب اللبناني، وخصوصاً بري وعائلة الصدر، على عدم تسليم القذافي، توقفت المراجعات. وفي هذا السياق، تقول مصادر في حركة أمل إن الإفراج عن هنيبعل «أمر ليس فقط الرئيس بري أو جمهور حركة أمل وحزب الله وعائلة الصدر لا تتقبّله، بل جزء كبير من اللبنانيين ومن كل الطوائف». في هذا السياق، يقول القاضي الشامي إن صفة اللجوء السياسي لا تنطبق على هنيبعل القذافي، معتبراً أن «هذا الشخص وُجِد في لبنان وعليه إشارة حمراء من الإنتربول قبل أن يستجوبه المحقق العدلي كشاهد».