هذه المقالة هي جزء معدّل من مراجعة طويلة لكتاب مذكرات الراحل فؤاد بطرس(¶) كتبْتُها عندما صدرت في طبعتها الأولى عام 2009 عن “دار النهار” وأثارت اهتمام الأستاذ بطرس يومها بمناقشة طويلة في منزله في الأشرفية حيث التقيته في جلسة ثنائية بينما في السابق زرته مرتين بدعوة منه إلى العشاء ضمّت بعض الزملاء المعروفين. وإذْ أستعيد بعضها معدّلاً اليوم فلأنني وجدتُ نشرها أكثر إفادة بعد وفاته لأنها تتعلّق بتقييم نظرته لتجربته الطويلة. أعتقد أن الجيل الجديد من الشباب اللبناني الذي ظهرت طليعيّتُه خلال الحراك المدني الأخير عليه أن يقرأ ودون تلكؤ هذا الكتاب الهام لأنه يجمع أساسا بين مستويين جوهريين: الأول هو حصيلة تجربة سلطوية وسياسية تمزج بين الإصلاحي والتقليدي وحصيلة مزج عملي، توافقي وصراعي، بين الكياني والخارجي. وهنا المراجعة المستعادة:
لم اقرأ كتاب مذكّرات فؤاد بطرس فقط. أستطيع الادعاء أنني حاولت ان ادرسه كمادة لتحليل وفهم بعض آليات عمل النظام السياسي اللبناني. فالكاتب الذي هو سياسي مسيحي ارثوذكسي وُلد قبل ولادة الدولة اللبنانية بقليل جداً، الدولة اللبنانية التي نعرفها بحدود “لبنان الكبير”. فهو أبصر النور في عاصمة “الولاية” بيروت وليس في “متصرفية جبل لبنان”، دخل العمل السياسي قليلاً قبل “منتصف” عمرها الحالي عندما – كما كتب – “كان كل شيء قد اصبح مهيأ لدخول المعترك السياسي” (ص50) كل شيء” اجتماعياً وثقافياً ومهنياً” ولكن طبعا ليس سياسياً لولا قرار الرئيس فؤاد شهاب باختياره لمنصب وزاري في فترة يصفها بعد بضعة اسطر من الصفحة نفسها بأنها “يوم قرر الرئيس شهاب تجاوز طبقة سياسية راقبها طوال ربع قرن”.
القاضي السابق، وقبله المساعد القضائي ابن صاحب المصرف المفلس الذي اضطر لدخول الوظيفة العامة، ثم المحامي الناجح، سيولد عام 1959 “سياسياً” في سياق مشروع اصلاحي، بل “المشروع الاصلاحي” الوحيد الكبير لمحاولة تسيير الدولة اللبنانية من دون التأثيرات المتخلفة – بل المدمرة – للنظام الطائفي على هذه الدولة. وعندما نصل مع فؤاد بطرس الى هذا المنعطف سنكون قد عرفنا من تجربته نماذج لقضاة فرنسيين عايشهم في اواخر عهد الانتداب وتعلم منهم كيف يكون القاضي مستقلا عن النفوذ السياسي. ممارسات شخصية يستنتج القارىء انها ستؤثر طبعا في جيل لاحق من موظفي القطاع العام اللبناني… قبل ان يأخذ الاداء العام بالانحدار وقبل ان تتيح تجربة الدولة اللبنانية منذ 1920 للمراقب (او المؤرخ) من جيلنا أن يستنتج ان ارقى فترة قبل المحاولة الشهابية لتأسيس ادارة رسمية حديثة وذات مستوى كانت فترة الانتداب الفرنسي و”خريجيها” وبينهم قطعا ولو من جيلين مختلفين فؤاد شهاب وفؤاد بطرس.
غير ان هذا السياسي نموذج جيل شاب يومها من النخبة اللبنانية الفرنكوفونية في الاربعينات والخمسينات، سنجده خلال سنوات قليلة بل بعد سنوات “ذهبية” في النشاط السياسي الاصلاحي في الستينات، لم يتحول فقط الى سياسي محترف بل تحوّل ايضا الى سياسي سترغمه الاقدار مثل الكثيرين من السياسيين على استهلاك حياته السياسية المديدة التي تنتظره في قلب “السياسة السياسية” لمحاولة انقاذ الدولة اللبنانية في حدود حدودها الدنيا: الوجود الامني لهذه الدولة في “البلاد التي سكنتها روح شيطانية ابتداء من العام 1969” كما يقول (ص 156). فالدول كالأفراد تتضاءل طموحاتها أحياناً الى مجرد الدفاع “البيولوجي” عن النفس، كما يمكن تشبيه حقبة 1975 – 1990 للدولة اللبنانية.
هذه “الروح الشيطانية” مستمرة حتى اليوم بصورة من الصور بالنسبة لجيلي انا الذي تفتّح “وعيه” السياسي في الصف الاخير من المدرسة عام 1969 ثم لاحقا في الجامعة داخل هذه “التروما” الحرب أهلوية المتواصلة التي تحكم بنية السياسة اللبنانية حتى في فترات السلم الاهلي بعد 1990. هكذا سينتقل الكتاب “سريعاً” نسبياً حتى ما قبل صفحاته الاخيرة البالغة 588 صفحة “مذكراتية” بدون الفهرس الاخير لنشهد فصولا كأنها من “رواية” اخرى لدور آخر تماما ستتضح تفاصيله المشوّقة والكثيفة مع عودته الى الحكومة “سوبر وزير” في عهد الرئيس الياس سركيس.
“الروح الشيطانية” التي حلت عام 1969 لا تقسم البلاد فقط من الآن فصاعدا بل تقسم الكتاب ايضا الى نصفين غير متساويين. لكنهما “النصفان” الجوهريان لتاريخنا منذ العام 1920: صعود الدولة اللبنانية وانحطاطها.
هكذا اصل الى الانطباع الرئيسي عن كتاب فؤاد بطرس الدلالي:
شاهد في صعود الدولة وشاهد على انحطاطها. واذا كنتُ لا اريد – ولا يجب – ان أخصص شخصا كفؤاد بطرس بمسحة درامية تتعلق بهذا الموقف العاجز عن ايقاف انحدار عميق للكيان – الدولة لأنها مسحة تطبع الكثيرين غيره في الحياة العامة اللبنانية، فان القارىء في الوقت نفسه لا يستطيع الا ان يتحسس مع امثال شخص محترم – وكاتب سياسي دقيق وذكي – كفؤاد بطرس هذه المسحة المأسوية بتأثير اكبر وأعمق. ففؤاد بطرس بالنتيجة عضو بارز في آخر “فريق دولتي” في لبنان حاول ان يوظف معادلة “الدولة ضد النظام” ولكن من داخل النظام نفسه. قد لا يوافقني عدد من “الشهابيين” على هذا التوصيف للتجربة الشهابية ولكن الامر الاكيد ان هذه المحاولة النوعية (الوحيدة) غرقت او أُغرقت بالنتيجة في وحول النظام الطائفي الذي كان بدوره – وهذا مستوى “دراسي” آخر اقترح ان تُقرأ مذكرات فؤاد بطرس من خلاله – كان يتحول من نظام طائفي الى نظام اكثر طائفية.
هذا يعني ان التجربة التاريخية اللبنانية تقول ان النظام الطائفي – مع مادته “المؤقَّتة” في الدستور منذ العام 1926 – من المستحيل أن يصبح اقل تطيفاً مع الوقت بل سيزداد تطيفاً حتى مع تغير موازين القوى داخله. دون ان ننسى ان التجربة الشهابية نفسها – من وجهة نظر جادة للعديدين – لجأت في محاولة “تجاوز الطبقة السياسية” الى مراعاة لتحولات طائفية لدى المسلمين والمسيحيين في رهان معقد على إمكان تحديث الدولة المركزية بالتوازي معها. سنستطيع ان نقدم عددا من الامثلة الوقائعية من كتاب فؤاد بطرس، لكن بعض أهمها يجعلنا نخرج باستنتاج هو ما بدا انه “شبه اجماع” الزعامات المارونية الرئيسية على استبعاد التجديد لفؤاد شهاب عام 1964 بمن فيهم بيار الجميل زعيم الحزب الذي اعتمدته “الشهابية” بعد العام 1958… ورضوخ فؤاد شهاب بالنتيجة لهذا الاتجاه الماروني باستبعاده.
ثم “انقلاب” الرئيس شارل حلو على “الشهابية”. إذ نفهم من المذكرات ان فؤاد بطرس ساهم في اختيار حلو عبر ميشال خوري ثم اقناع فؤاد شهاب به كبديل رئاسي عام 1964 (ص97). لكن لا يظهر من العرض اللاحق ان بطرس اعتبر نفسه “مخدوعاً” من شارل حلو او من آل الخوري. غير ان عهد شارل حلو يصلح للانتقال الى مستوى آخر لدراسة الاسباب الاكثر تأثيرا ليس فقط لانهيار التجربة الشهابية بل الاهم لانهيار الصيغة اللبنانية نفسها. فهل كان “النظام الطائفي” سيبدو غير قابل للاصلاح بشكل يائس لو ان الممانعات الاساسية لهذا الاصلاح داخلية فقط؟ بكلام آخر ألا تظهر التجربة تلك ان حجم الضغط الخارجي على التركيبة اللبنانية هو المسؤول الاول عن الانهيار الاصلاحي؟ لكن ايضا – ودائما هنا انطلاقا من معطيات شهادة فؤاد بطرس – السؤال الادق في لبنان هو: الا يجعل النظام الطائفي الوضع الداخلي دائم الانكشاف – بمعنى الهشاشة – للاوضاع الاقليمية والدولية؟
لننتبه: نحن لسنا هنا امام سياسي يحمل اي ادعاء عقائدي ضد الصيغة الطوائفية للبلد. بالعكس يظهر ايمان فؤاد بطرس بالصيغة، خصوصا في مرحلة الحرب الاهلية 1975 – 1990، كمدافع مستعد حتى لدفع الثمن الشخصي عن صورة ما للبنان وموقعه المعتدل كما يراه. غير اننا دائما امام “رجل دولة” صاحب همّ متواصل بعقلنة الصيغة الطائفية ومنع او اقناع المتطرفين المسيحيين (ويصفهم احيانا بالانتحاريين ص 321) من تعريض لبنان لمغامرات خطرة وتدميرية، كما يواجه في أحيان كثيرة المعتدلين بين المسلمين بسبب ما يعتبره رضوخهم للضغوط العربية: الفلسطينية ثم السورية.
لن ادخل هنا في التفاصيل، لكن الانطباع الذي يتولد من المذكرات انه ورغم المواجهات السياسية الفعلية والخطرة التي حصلت بين فريق الرئيس سركيس ومن ضمنه اساسا فؤاد بطرس وبين بشير الجميل وكميل شمعون الا ان خاصية تلبية الضغوط على المسؤول السياسي من بيئته الطائفية ليست عند المسلمين فقط كما تظهر – وهذا طبيعي – حالة الرئيس سليم الحص. فالفصل الفائق الاهمية المعلوماتية للسنتين الاخيرتين من عهد سركيس وذروتهما الاجتياح الاسرائيلي يظهر كيف تَحَوَّل بشير الجميل – باعتراف الوزير بطرس – الى المرشح “الواقعي” المفضل لدى سركيس لرئاسة الجمهورية عام 1982. فيما فؤاد بطرس يسجل لبشير “بعض النضج” في ملاحظات تعود لتتصاعد – ولو بتحفظ – ايجابيا.
مثل كتاب “حقائق لبنانية” للرئيس بشارة الخوري ومذكرات (رئيس الوزراء السوري الاسبق) خالد العظم ومذكرات سامي الصلح وبعض غيرها… لم يعد ممكناً تجاهل كتاب فؤاد بطرس في أية كتابة لتاريخ عدد من الحقبات في تاريخ لبنان المعاصر. ليس فقط كوجهة نظر في هذا التاريخ، بل ايضاً كمصدر معلومات في اعادة تقييمه. وأقترح – في خاتمة هذه المراجعة – عقد ندوة مشتركة بين الجامعتين الاميركية واليسوعية لمناقشة منهجية لمعضلات النظام السياسي اللبناني كما تظهر في الكتاب… يمكن أن تضم ايضاً اساتذة علوم سياسية ومؤرخين من الجامعة اللبنانية… التي باتت تشبه نظامنا السياسي تماماً…