لعل فؤاد بطرس تعب اخيرا ويئس من امكان نهوض لبنان وقيامته بعدما انتظر طويلا جدا امكان بروز بصيص امل من دون جدوى، فخفف احماله ورحل. لم يراهن يوماً على ان عقارب الساعة يمكن ان تعود الى الوراء. كان واقعيا قاسيا الى حد التشاؤم الذي الصق به كتهمة لا تفارقه، فيما غدا الواقع المعاش والمستقبل القاتم الذي يبدو في الافق اشد قتامة من التشاؤم نفسه. كان فؤاد بطرس حزينا جدا في الاعوام الاخيرة على لبنان وعلى اللبنانيين وعلى المسيحيين الذين ساهموا، عن وعي او غير وعي، في تقليص دورهم وموقعهم فبات كل من الدور والموقع الى جانب المصير والمستقبل في خطر شديد لا يمكن تجاهله او انكاره. فالتفكك الممنهج للدولة وسلوك الكثير من قياداتها تبنّي طرق الانهيار غير آبهين بالاثمان التي تترتب على اللبنانيين عموما وعلى المسيحيين خصوصا، غدا من القناعات التي لم يثق بان ثمة املا بتغييرها بعد اليوم، وهو الذي عمل طويلا وحثيثا من اجل عدم الوصول الى هذه النقطة. يصعب اختصار فؤاد بطرس في كلمات وهو في ذاته تاريخ كامل على مدى عقود عايش خلالها مراحل اساسية وجوهرية في بناء لبنان قبل انهياره في حكومات تاريخية، وكان له نصيب كبير في محاولة اخراجه من الحرب التي دمرته.
نعود فقط الى محطتين اساسيتين طبعتا السنوات الاخيرة من اهتماماته السياسية قبل اعتزاله العمل السياسي اليومي: حين رغب بشار الاسد بعيد وصوله الى السلطة في سوريا في العام 2000 في اظهار وجه مختلف عن حكم والده استعان بوساطة فؤاد بطرس كمنارة يسترشد بها للدخول الى مجتمع الموارنة المغلق على عداء لسوريا نتيجة ممارسات للنظام السوري ارتقت الى مستوى الاحتلال. كان فؤاد بطرس الرجل المحترم والمعتدل جسرا ليس الى المسيحيين فحسب بل الى اللبنانيين ، لكن رئيس النظام السوري الجديد لم يحسن الاستفادة من خبراته من اجل محو اعوام من تسلط النفوذ والوصاية. كانت مجرد محاولة استدرك بطرس سريعا أبعادها منذ اللقاء الاول لجهة عدم قدرة النظام السوري على التغيير او اعطاء اللبنانيين والمسيحيين الحد الادنى مما يمكن ان يبني جسور الثقة بين لبنان وسوريا ولو ان هناك ارادة ضمنية صغيرة لذلك، فخرج من الوساطة كما دخل محترما لا يقبل ان يوظف دوره او خبرته في تضييع الوقت واستنفاده او في منح غطاء سياسي لما لا يمكن ان يعيد بعض السيادة الى الوطن السليب. كان بالغ الاحترام لدوره وموقعه الذي كان يفرضه على الاخرين في اي موقع كانوا ، خصوصا اذا كان النظام السوري هو المعني وقد استهان باللبنانيين ومسؤوليهم اعواما طويلة. هذا الارثوذكسي كان هو الآخر، كما غسان تويني، صاحب القامة الوطنية التي يمكن ان تطمئن اللبنانيين الى عدم الاستهانة لا بحقوق لبنان ولا بسيادته بعيدا من المطامع او الطموحات الشخصية. لذلك كان مصدر ثقة عميقة لدى البطريركية المارونية وضميرا للبنان وحقوقه.غالب فؤاد بطرس يأسه يومذاك من امكان ان يخطو النظام السوري في اتجاه احترام لبنان مقتنعا بانه يجب بذل ما يمكن اذا سنحت الفرصة، لكن سرعان ما اعادت التطورات بطرس الى مربعه الطبيعي في النظرة الى لبنان المتغير والمتحول الذي لم يعد يشبه لبنان الماضي الذي ساهم بطرس في بناء مؤسساته الدستورية بل غدا مرتعا للميليشيات التي استباحت غناه وقدراته وابناءه وشرّعته على التدخلات والنفوذ الخارجي وخربت مداميكه الديموقراطية التي جهد بطرس منذ عهد فؤاد شهاب في وضعها مع آخرين من امثاله ممن تركوا لبنان يتيما من قيادات تاريخية على مستوى الوطن لا الطائفة الصغيرة التي كان من ابرز عناوينها ورأسمالها الفكري والسياسي والمؤسساتي ، وهو طبع جنبا الى جنب مع غسان تويني تاريخ السياسة الخارجية للبلد الصغير في ابرز قوتها وعناوينها السيادية، فكانا رمزا للبنان المستقل السيد والمزدهر والمحترم. وهي صفات بات لبنان محروما منها في الاعوام الاخيرة ومصدر حزن عميق لفؤاد بطرس.
المنارة نفسها شكلها بطرس حين كلف رئاسة اللجنة الوطنية لاصلاح القانون الانتخابي العام 2005 حيث قدم مشروعا انتخابيا على اساس مختلط بين النسبي والاكثري، ولا يزال يدور الجدل حول امكان اعتماد هذا القانون مع ارجحية كبيرة له على رغم صراع سياسي شديد يدفع في اتجاه اخلال بالتوازنات التي يرسيها القانون.
المنارة التي كانها فؤاد بطرس كانت ملجأ لسياسيين كثر على مدى عهود رفض، على رغم نشره بعضا من مذكراته، الافصاح عن اسرارها. كان يخشى حتى بعدما اعتزل العمل السياسي اليومي ان تفجر هذه الاسرار الاوضاع الهشة في لبنان ومحيطه. كان يروي البعض من الوقائع والاسرار لمقربين منه او لصحافيين يثق بهم ، انما ليس الا بعد تعهدهم انهم لن يكشفوا عنها ايا يكن الوضع لانها كانت تعكس، ليس الحقائق وتفاصيلها فحسب، انما ايضا معدن الرجال والقيادات الذين هم وراء الكواليس والذين لا تعكس اطلالتهم الاعلامية حقيقتها وجوهرها باعتبار ان حقيقتهم الفعلية هي غيرهم في الواقع الذي استرهن الوطن الصغير بكل طوائفه او باي من هذه الطوائف. كان له رأيه الخاص والقاسي في حق سياسيين كثر غامروا بالبلد وكانوا مصدر يأسه من امكان انهاضه مجددا. ففي الوقت الذي كان يشكل المنارة التي كان يود سياسيون كثر الاسترشاد بها للوصول الى الشاطىء الآمن، كان آخرون غالبا يصطدمون بنزاهة فؤاد بطرس ورأيه السيادي القاطع الذي لا يقبل المساومات ولا التسويات، فينكفئون الى مربعاتهم وقد عجزوا عن نيل موافقة او رضى مرجعية فؤاد بطرس.