IMLebanon

فؤاد بطرس المتشائم: ألم يكن على حق؟

خلال الاسبوع الفائت، ودّع لبنان كبيرا من كباره الذين كانت لهم يد طولى في وضع كثير من الأسس التي قام عليها لبنان الوطن والكيان، في المرحلة التي رافقت وتلت أحداث العام 1958. 

وبهذه المناسبة قيل الكثير في هذا الرجل الذي استعادت وسائل الإعلام ذكر اسمه بمناسبة وفاته، وتحدثت عن صفاته وانجازاته، وأضيفُ إليها في ما يلي، بضعاً من الوقائع التي عايشتها في مناسبتين خلال مسيرته السياسة الطويلة والحافلة. أول هذه الوقائع، تعود إلى أيام دراستي الثانوية، وكان فيها الراحل الكبير قد تبوأ في بداياتها منصب وزير التربية الوطنية والفنون الجميلة «كما كانت تسّمى آنذاك». خلال هذه الفترة، قابَلَتْهُ مجموعة من الطلاب اللبنانيين المنتمين إلى الثانويات اللبنانية المختلفة، وكنا قد كوّنا ما أُسمي آنذاك برابطة التآخي الطلابية، تمثلت فيها غالبية الفئات والإتجاهات اللبنانية وتبنت هيئاتها المختلفة جملة من المطالب التي كانت تزخر بها ساحات العمل العام في تلك الايام الحافلة بالأحداث والتطورات. 

بهذه الصفة، طلبَتْ هذه الهيئة موعدا لمقابلته ولطرح بعض المطالب عليه والحصول على تأييده بصددها، إنطلاقا من كونه أحد المسؤولين عن الشأن السياسي والوطني والطلابي. 

ما إن اجتمعنا في مكتبه في الوزارة (حوالى العام 1959، وكان لبنان قد خرج لتوه من ثورة 1958)، حتى بادر إلى الترحيب بنا باهتمام وحرارة ملحوظين، وبادر إلى « استجوابنا» فردا فردا سائلا كلاّ منّا عن اسم المدرسة التي ينتمي إليها، ساعيا من خلال ذلك، إلى التأكد من سعة تمثيلنا الطائفي والمناطقي، وقد ارتاح إلى حد بعيد لشمولية هذا التمثيل، خاصة أنه يحصل بعيد ثورة مسلحة عمّت لبنان وتسببت له بكثير من الأضرار والأذى المادي والمعنوي فكانت بطبيعتها مستجدّة الوجود والأبعاد والمعاني، وقد داهمتِ البلاد آنذاك وتركت في تركيبتها أوائل البصمات الهامة التي أنذرت بجملة من التطورات السياسية اللاحقة، وأهمها ما تشهده البلاد في هذه الأيام من نتائج جملة من الأحداث مرّت بثورة العام 1975 ولطّختها بدماء لبنانية طاهرة، إنتمت إلى كل الأجساد والأرواح المتعايشة في لبنان، ووصلت إلى ما نعاني منه في هذه الأيام من بقايا أحداث تلك السنين اللاهبة والتي أوصلتنا مع الأسف الشديد، إلى أن نعيش في كنف دولة غابت عنها أسس الدولة حتى زالت بل أزيلت كل سلطاتها ومؤسساتها الرئيسية، وأيامنا التي نعيش اليوم، غنية عن كل تعريف لها وتوصيف لمساوئها، وآثارُها قائمة ولم تزل متمترسة في صلب الشروخ العمودية لهذه الأرض التي بات الوجود والكيان اللبناني فيها مهددا بشتى أنواع الأخطار والأضرار. 

فؤاد بطرس في حضورنا معه في ذلك اللقاء الشبابي والطلابي، كان ومن خلال ما طرحه علينا من أسئلة وما توجه به إلينا من مواضيع عميقة الجذور والأبعاد، كأنما كان بها وبأجواء اللقاء كله، مستقرئا لكل تلك الفترة الممتدة من العام 1958 وحتى الآن، وربما بعد الآن. كان هاجسه، حاضرَ البلاد ومستقبلها، كان يدعو إلى تطهير لبنان من أدران الخلافات الوطنية الحادة التي كانت تتواجد وتنمو في بداياتها المستجدة آنذاك، وكان المستقبل هاجسه الأكبر. ما زلت أذكر أنه في ملاحظاته وكلماته لم يكن يعتبر أن الأحداث اللبنانية قد انتهت بنهاية أحداث العام 1958، وبقدر ما كان سعيدا بتلاقينا آنذاك كطلاب ثانويين يمثلون قطاعات شبابية واسعة ومتنوعة من الشعب اللبناني، تطوعتْ باندفاع شديد لتشارك بأعمارها الفتية واندفاعاتها الوطنية النظيفة الخالية من غبار السياسة والسياسيين المتقاتلين آنذاك في مناطق البلاد وشوارعها وأزقتها، في عملية إنهاض الوطن من عثراته البالغة، وكان يركّز على أن لبنان لديه فرصة خلاص أساسية متمثله في الروح الشبابية التوحيدية التي رأى فيها بعضاً من بريق أمل بالإنقاذ والخلاص الحقيقي الدائم والمستمر. 

وثاني المعايشات، أعود بها إلى لقاء معه يوم كنت عضوا في مجلس إدارة تلفزيون لبنان، وكلفني زملائي في المجلس آنذاك، أن أقدم وأدير مقابلة تلفزيونية إحتفاء بذكرى العلامة الحقوقي الكبير الدكتور صبحي المحمصاني، ضمت إليها عددا من المحاورين وفي طليعتهم الراحل الكبير فؤاد بطرس، قبيل بدء بث الحلقة، جمعني به لقاء في أحد مكاتب الإدارة في القناة 11، ودار بيننا نقاش حول أوضاع تلك الأيام التي كانت حافلة بالأحداث والتطورات وبادرني بالقول: أنا أستمع إلى تعليقاتك السياسية في إذاعة صوت الوطن وقبلها في إذاعة لبنان والتي اذ أشيد باتجاهاتها الوطنية، إلاّ إني أراك يا بني شديد التفاؤل، أنت متفائل أكثر من اللزوم، ورأيت نفسي أدخل في نقاش معه حول هذه النقطة لأبدأ بالقول: معاليك معروف في كل الأوساط وبما يشبه الإجماع، أنك متشائم جدا… متشائم أكثر من اللزوم، وكان مصرّا على تشاؤمه (رغم محاولاته توصيفه بكلمات موازية ومشابهة) معتبرا أياه واقعا ملموسا للحاضر والمستقبل. كان آنذاك يرى الأحداث بعين قاسية وملبدة بهموم آنية ومستقبلية، وكان يخيل إليّ أنه يتكلم وعيناه تنظران إلى مقبل الأيام… القريبة والبعيدة، حاولت أن افسّر له أسباب ما ذكره عن تفاؤلي، قلت: الناس « معميّ على قلوبها» من فرط قساوة الأيام والأحداث… إنني أحاول أن أرى في الصورة العامة بعضا من بياضها فأنقل ما أمكنني من أحداث القسم الأبيض، لعلني بذلك أساهم في رفع المعنويات الهابطة. تقبّل هذا التفسير مني، ولكنه رفضه كواقع سياسي يقتضي أن يصل إلى الناس على حقيقته أجابني: أنت في أقوالك وتفسيراتك هذه، تخاطب الناس «كطبيب نفساني»، علما بأنك على الاقل يجب أن تخفض من هذه النسبة في المخاطبة المتفائلة، ولا تؤاخذني إن وضعتك في صفّ المتفائلين أكثر من اللزوم. 

وغطسنا بعد ذلك في المقابلة التلفزيونية، وكنت أوجّه إليه وإلى المشاركين، في تلك الحلقة أسئلة سعيت فيها أن أجمّد تفاؤلي، علما بأنني شخصيا لم أكن أرى في نفسي، هذا القدر الذي حمّلني إياه من التفاؤل، وودّعَ الناسُ هذا الرجل الكبير، وكل منهم يذكر ما عرف عنه من اتجاه نحو التشاؤم المجبول بالواقعية، ولكن كثيرين منهم ودّعوه وهم يهزّون الرأس ويطأطئونها متسائلين: ألم يكن فؤاد بطرس على حقّ وعلى صواب؟ ألا تثبت أحداث هذه الأيام، سلسلة الصور القاتمة التي كانت تمرّ في ناظريه وفي ذهنه؟ وماذا بعد أن كاد لبنان أن يفقد كل أمل في أن يكون له رئيس ومؤسسات تعمل وتنتج وتسعى بكثير من الصعوبة، للحفاظ على أرواح الناس وأموالها ومستقبل ابنائها، في هذا الوقت العصيب بالذات… ودّع فؤاد بطرس الحياة، وكأنما اختار وداعه لها على أساس يتناسب مع سعيٍ ما لديه للخلاصِ من كل هذه الأحداث الدافعة للتشاؤم. 

أنا الموقع أدناه، م.أ. داعوق، وبعد أن اتهمني الراحل الكبير بالمبالغة في التفاؤل أقر الآن وأعترف وأنا بكامل الوعي والإدراك بأنه قد كان على حق… «وستّين حق»، ومع ذلك نبقى جميعا محكومين بالقول المأثور، ما أصعب العيش لولا فسحة الأمل.