كي لا تتكرّر مأساة لبنان (10/12)
قبل استخلاص العِبَر مما تقدّم, إرتأيت أن أتحدث عن تجربة الرئيس فؤاد شهاب لما لها من علاقة بمحاربة الطبقة السياسية المارقة التي تشكل حجرة عثرة للوصول إلى خلاص لبنان.
يطول الحديث عن المزايا الشخصية للراحل الكبير، عن إنجازاته في تحديث الدولة وبناء مؤسساتها (المصرف المركزي، مجلس الخدمة المدنية، الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي…) وتمسّكه بالدستور وسياسة الإعتدال والإصرار على العيش المشترك المبني على التوازن بين المسيحيين والمسلمين، وتمسّكه بسيادة لبنان وإستقلاله (الاجتماع التاريخي في بداية عهده بجمال عبد الناصر، رئيس الجمهورية العربية المتحدة آنذاك، بالخيمة على الحدود اللبنانية-السورية، إمتعاضه من خليفته الرئيس شارل حلو لقبوله باتفاق القاهرة، فضلاً عن تماهي هذا الأخير مع الطبقة السياسية التقليدية…).
غير أن ما يغفله كثيرون هو حربه لما سمّاهم بـ«أكَلَة الجبنة»، وهو الوصف الذي أطلقه على السياسيين التقليديين الذين كانوا يستخدمون أجهزة الدولة ومؤسساتها لخدمة مصالحهم الشخصية وممارسة الزبائنية السياسية.
ولنتذكّر حملة تطهير الإدارة اللبنانية في بداية عهده والتي لم يُقدّر لها النجاح.
ولكن بالرغم من إخفاقاته في محاربة الطبقة السياسية التقليدية كما كان يسمّيها، تمكّن من الإفساح في المجال لبروز رجالات دولة جدد على الساحة السياسية أمثال فؤاد بطرس، إلياس سركيس، رينه معّوض، أنطون سعيد، علي بزّي… وتعيين عدد من المدراء الكفوئين في الإدارة اللبنانية مثل شفيق محرّم، شارل رزق، حسن مشرفيه…
والحقيقة أن فؤاد شهاب أدرك أنه يواجه في الداخل قوى إقطاعية-عشائرية تستخدم الطوائف عدّةَ شغلٍ لخدمة مصالحها الشخصية والسلطوية.
توقّع الكثيرون أن يترشح شهاب لانتخابات العام 1964. لكنه أعلن قراره بعد الترشح في بيان تاريخي، وشرح أن تجربته في السلطة أقنعته أن شعب بلاده ليس جاهزاً ليتخلّى عن العقلية التقليدية الإقطاعية والاقتناع بأهمية بناء الدولة الحديثة.
من ناحية أخرى، نقرأ في مذكرات أوهانس باشا قيومجيان (آخر متصرف لجبل لبنان) التي نشرت في باريس عام 2003، أن التركيبة الاجتماعية-السياسية في لبنان هي «مزيج هجين من الإقطاع الآري والقبلية السامية».
فالمشكلة إذاً ليست في القادة فقط، إنما أيضاً بالشعب الذي يرتضيهم ولاةً له.
وفؤاد شهاب من خلال تجرّده وتجربته وصل إلى الإستنتاج نفسه الذي سبقه إليه أوهانس باشا.
وتتجسّد هذه التركيبة في ما يُسمّى بالبيوتات السياسية القديمة والمستجدة. فالتركيبة تتجدد وتعيد إنتاج نفسها بنفسها، وقد رأينا كيانات، قوى وقادة، ثاروا ضد الطبقة التقليدية ولكن سرعان ما تحوّلوا إلى نسخة مسخ عنها.
فرؤساء هذه العائلات السياسية هم في واقع الحال رؤساء قبائل، وأفراد كل قبيلة يدينون بولاء مطلق لرئيسهم، وهم معه حتى الموت مهما اقترف من أخطاء، باعتبار أنه يؤمِّن قوة القبيلة من خلال اقتطاع حصص في الدولة المركزية لتأمين حاجات قطيعه ولتقوية مكانة قبيلته في مواجهتها للقبائل الأخرى. فتراهم يتقاتلون ويعلو الصراخ في ما بينهم عندما يتعدى أحدهم حدود نفوذ الآخر، ثم يعودون إلى التساكن والإلفة والشراكة في نهب الدولة.
وتراهم ينظمون قبائلهم في شبه-أحزاب تصف نفسها زوراً بالديمقراطية وهي لا تلتزم بالنظام الداخلي التي تكون قد وضعته أو أنها لا تمارسه إلّا شكلاً.
أليس هذا هو بالذات مصدر الفساد؟!
واليوم بعد إنتفاضة 17 تشرين 2019، لا يصح لأحد أن يتجاهل ضرورة الخلاص من هذه الطبقة السياسية المارقة القاتلة الفاسدة، بل يتوجب عدم الإكتفاء بالنضال لرفع الاحتلال الإيراني عن لبنان. لماذا؟..
لأن إذا خلا لبنان من السلاح غير الشرعي وأُعيد إحياء الدولة بعد مرحلة اللادولة التي نعيشها، فإن هذه الطبقة السياسية سوف تعيد إدخال هذه البلاد في مأساة جديدة، تماماً كما حصل بعد الخروج السوري من لبنان عام 2005.
لذا، تنفيذ القرار 1559 لا يفي وحده بالمطلوب، بل يجب وضع لبنان تحت الانتداب الدولي وفق الفصلين 12 و13 من شرعة الأمم المتحدة. وتحت إشراف الانتداب يتوجب تشكيل سلطة لبنانية مؤقتة، تُختصَر مهمتها بـ«تكنيس» الطبقة السياسية المارقة من مؤسسات الدولة وأجهزتها وإداراتها كافة بما فيها القضاء، تمهيداً لإنهاء الانتداب والعودة من ثم إلى تنفيذ الدستور.
بعد ذلك، تُجرى الانتخابات النيابية والرئاسية وتشكّل الحكومة. والأمل في شبيبة 17 تشرين (لا أتحدث عن غالبية من انتُخبوا في الانتخابات الأخيرة، فقد تمّ استيعابهم وباتوا جزءاً من التركيبة). وفي اعتقادي أن الوعي اللبناني لضرورة الخروج من نفق التركيبة الحالية من أجل بناء وطن ودولة بات حقيقة، وإن لم تسمح الظروف للشعب اللبناني بأن يعبّر عن أمانيه الحقيقية.
لبنان بحاجة إلى نيو-شهابية ليخرج نهائياً من كبوته! الحلول الجزئية والآنية والمؤقتة لا تفي بالغرض.
ورُبّ قائل بأنّي في حالة تفاؤل غير مبرر وبأنّ ما أطرحه غير ممكن التحقق.
وجوابي هو: نعم، في الظروف الدولية والإقليمية والداخلية الحاضرة. ولكن الأوضاع غير جامدة، وما يبدو مستحيلاً اليوم قد يصبح ممكناً في مرحلة لاحقة.
وفي مطلق الأحوال، أي مسألة ضخمة ومعقدة تتطلب حلولاً كبيرة وصعبة التحقيق.
يبقى أن الحلّ يبدأ بالحلم.