هذا الجبل “الشاهق” من الفساد، والاهتراء، والتسيُّب، والسقوط بكل أنواعه وأسمائه، لم يتراكم خلال عهد أو سنوات معدودات، إنه نتيجة تراكم “تراثي” ترجع أصوله وفصوله إلى العهد الاستقلالي الأوّل، وإلى ما قبله. أي خلال مرحلة الانتداب الفرنسي والـ”بوربوار”، رجوعاً إلى أيام البرطيل في الزمن العثماني العَفِن.
محاولات خجولة أطلَّت مع بدايات عهود بنيت عليها الآمال، لكنها لم تلبث أن خلعت رداء التقشّف والإصلاح لترتدي “أزياء” العائلة وأفرادها والمحاسيب والأنصار و…
لهذه الأسباب والعلل “الأصيلة”، يكاد عهد الرئيس فؤاد شهاب أن يكون الوحيد الذي سعى وحاول بجرأة وجديّة وتصميم تأسيس دولة عصريّة كاملة النضج والأوصاف، مزوَّدة مؤسّسات وإدارات ومجالس يحتلّ مقاعدها ومكاتبها أصحاب الكفايات، وحملة الشهادات، والمتخصّصون، والمشهود لهم.
أي نسخة طبق الأصل، إنما متواضعة، عن الجمهورية الفرنسية الخامسة التي أنشأها الجنرال شارل ديغول، فنفض عنها كل عفن الماضي الذي جعلها تبدو كهلة في عين الجنرال الذي وقع في غرام فرنسا التي لا تتشبّه بالآخرين…
إلا أن صعود نجم المكتب الثاني، وتمدُّد نفوذه إثر الانقلاب غير الناضج الذي دمّر الحزب القومي نفسه به، على غرار ما جرى له في سوريا إثر حادث اغتيال عدنان المالكي الذي دبّره الثلاثي غير المرح عبد الحميد السراج وعفيف البزري وأكرم الديري، شوّه المشروع الشهابي للبنان مختلف وعصري.
حين جيء بالرئيس شارل حلو ليكون عهده كمرحلة عابرة بين هلالين تمهيداً لعودة الرئيس الأمير اللواء فؤاد شهاب، رأى “الجزويتي” بامتياز أن يفاجئ غابي لحود وسامي الخطيب، ويفتح عهده على حسابه، مقنعاً ذاته والقلّة التي كانت تحيط به أن الدولة بحاجة إلى نفضة لإحلال الشخص المناسب في المكان المناسب، “وعلينا أن نُقْدِّم نهج الإصلاح هدفاً لعهدنا”.
إلا أن الشهابيّين كانوا له بالمرصاد، وكان شباب “الهوهوهو”، كما سُمّي أقطاب “الشعبة” في حينه، جاهزين لقلب الطاولة وتحويل الفرحة بالإصلاح إلى تنغيصة استردّها حلو، بجزويتيّته العميقة جدّاً، عبْر مفاجأة “الحلف الثلاثي”.
منذ ذلك العهد، منذ تلك المحاولة التي ختمها شارل حلو بتطيير رئيس لجنة التطهير القاضي جان باز، لم يتغيّر حرف مما كان، ومما أورثته الحروب وشبّيحتها وأمراؤها لمرحلة ما بعد الطائف، وحيث كانت الوصاية السوريّة قد أصبحت داخل “البيت اللبناني” والآمر الناهي في الجمهورية التي لم يبق منها ولها سوى الاسم والصفة.
لن يستقيم الوضع في لبنان، ولن تقوم قائمة للدولة الصالحة المصْلِحَة، إلا متى جيء برئيس يتمتّع ببعض ما كان لفؤاد شهاب من “أحلام ديغوليّة”، سعياً إلى دولة القانون.