صار «اختيار» قائد الجيش، قائماً بالأمر، أو سابقاً، أشبه بقاعدة في الحياة السياسية في لبنان… لا سيما إذا كان صاحب مشروع أو تصور لما ينبغي تغييره أو تطويره في النظام السياسي ـ الطوائفي القائم.
بالطبع، هناك فارق نوعي بيِّن وخطير بين «اللواء» فؤاد شهاب الذي صار رئيساً للدولة، بصفة «المنقذ»، وبعد تمنع، وفي ظل «عدم إعجابه»، حتى لا نقول «اعتراضه» على أهل النظام وممارساتهم، وبين سائر العسكريين الذين تقلدوا هذا المنصب بمسؤولياته الجسيمة، أو سعوا إليه وكادوا يبلغونه، كما هي الحال اليوم.
ذلك ان «الأمير» فؤاد شهاب كان صاحب رؤية تجسدت في مشروع لإعادة بناء الدولة على قواعد عصرية، وبنظرة شاملة إلى الوطن الصغير بواقع التمايزات بين المناطق، مؤمناً بضرورة ان تحل «المؤسسات» محل «الزعامات» التقليدية، بقدر الإمكان: مجلس الخدمة المدنية هو المرجع في التوظيف وليس بطاقات التوصية، وعلى أساس الكفاءة والكفاءة وحدها، ثم التفتيش المركزي ـ بفروعه المختلفة ـ هو الرقيب على أعمال الإدارة، والمراجعة ممنوعة، والمصرف المركزي هو حامي النقد الوطني، والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مرجعية نزيهة لحقوق الأجراء (وان تعذر استكماله بأن يتولى استيراد الدواء مباشرة وتأمينه لصغار الكسبة بسعر الكلفة.. لأن جماعة الأربعمائة مليون ليرة آنذاك ـ وكما كان يسميهم ـ وقفوا ضده فمنعوا قيامه)…
كذلك فقد انتبه فؤاد شهاب، وهو سليل أمراء جبل لبنان، بأن لبنان ليس بيروت وبعض الجبل فقط، وان فيه فئات ومناطق محرومة لا تصلها الدولة.. فبادر ـ مستعيناً بدراسات وخبرات دولية ومحلية (بعثة ايرفد، على سبيل المثال) ـ إلى وضع خطة شاملة للإنماء تركزت بشكل خاص على البقاع والشمال والجنوب وبعض الجبل، وأنشئت مصلحة الإنعاش الاجتماعي التي تحولت في ما بعد إلى وزارة الشؤون الاجتماعية. باختصار: لقد حاول إعادة بناء الدولة.. لعموم رعاياها!
لكن الطبقة السياسية، ذاتها، نافقته في العلن، وعارضته سراً.. وهكذا فقد استغلت المحاولة الانقلابية (مع بداية العام 1961) التي حاول تنفيذها بعض صغار الضباط، رتبة، بدعم من الحزب السوري القومي الاجتماعي، وما رافقها من «مثالية» فؤاد شهاب أمام «واقعية» الأجهزة الأمنية لتعاود سيرتها الأولى… ووصل بها النفاق إلى حد التظاهر داخل بيته ومحاولة حمله على الأكتاف، والهتاف بحياته رئيساً دائماً، فلما رفض وأصر على الرفض انفضوا من حوله، وأخذ كل منهم يبحث عن مستقبله، مبتعداً عن «الشهابية» أو متبرئاً منها، مكتفياً بتأييد الراحل شارل حلو للرئاسة، نفاقاً لفؤاد شهاب و «نهجه» الذي ذهب معه… إلى النسيان!
لذا وجه فؤاد شهاب، قبيل رحيله، رسالة إلى اللبنانيين قال فيها خلاصة رأيه بالطبقة السياسية، مبدياً خوفه منها على مستقبل وطن الجمال الصغير.. وهي رسالة تصلح دستوراً ومنهجاً في التعامل مع النظام وأهله.
ها نحن، مرة أخرى، في مواجهة هذا النظام المستعصي على الإصلاح، كما نعرف يقيناً.. خصوصاً وأن الذين يتصدون لإصلاحه هم «أبناؤه الشرعيون» الذين غرفوا من نِعَمه وتمتعوا بخيراته، حراماً وحلالاً، ونالوا فيه المناصب والامتيازات، مستثمرين الطائفية والمذهبية طريقاً إلى الزعامة الشعبية والثروة واحتكار التمثيل.. ومن ثم المناصب في الحكم والمجلس النيابي والإدارة وحتى في القطاع الخاص..
ولن تكون الانتخابات الرئاسية الجديدة، بكل ما رافقها من مماطلة وتأجيل، ثم من تبدل في التحالفات والمواقف واستبدال المرشحين بغير تبرير (إلا ما هو شخصي) فتحا جديداً في التاريخ السياسي لهذا الكيان المركب بنظامه الطوائفي المجيد.
لسان حال «المواطن» (وهو في حقيقة الأمر رعية)، في هذه اللحظة، مع النواب الممددين لأنفسهم مرتين، في المجلس المقفل منذ سنوات: افعلوها وخلصونا! ليس لأن الانتخابات الرئاسية هي معقد الرجاء في الخلاص، بل هي خطوة لا بد منها لاستكمال «هيئة» الحكم، لعل ذلك يعيد إلى الحياة العامة دورتها الطبيعية، ومؤسسات الدولة إلى وظيفتها في خدمة الناس.. ولو بالثمن! وحفظ ما تبقى من اقتصاد البلاد وقيمة نقده وحمايته من التدهور!
لقد وصل المواطن إلى الإيمان بأن هذا النظام عاقر، على مستوى الوطن ودولته وشعبه.. ولكنه، في الوقت نفسه، قائم بقوة الأمر الواقع والعجز عن التغيير، وهو هو ولَّادة لأسباب الفساد والإفساد… و «أهله» يحرسون هيكله بأشفار العيون حتى لا يسقط، مهما بلغت أوجاع الشعب الذي ـ مع الأسف ـ يسهل تقسيمه طوائف ومذاهب بخطب المزايدات والمناقصات وتحريك العصبيات طائفية ومذهبية وجهوية الخ..
من هنا فلسان حال المواطن: ليأتِ أي كان إلى الرئاسة.. المهم أن تعود «الحركة» إلى البلد. المهم ألا تظل الدولة بلا رأس، تسير على عكازات، ومن غير خريطة سير، نحو الإفلاس.
عشتم، وعاش النظام الفريد!