Site icon IMLebanon

المسيو فرنسيس

 

قصة الرئيس فؤاد شهاب مع المسيو فرنسيس مشهورة، وأفضل من أعادَ إحياءها الزميل عزّت صافي في كتابه المهمّ عن زمن كمال جنبلاط: «طريق المختارة» والذي يُعتبر تأريخاً لمرحلةٍ وعصرٍ وإن مُعترفاً بإنحيازه لسيّد المختارة. وأهميته القصوى في ما يتضمّن من معلومات ووقائع وتفاصيل وتسجيل واحدةٍ من أهمّ حِقب التاريخ اللبناني المعاصر بدقّة وسلاسة.

 

خلاصة القصة أن رئيس الجمهورية الأسبق عرض على مجلس الوزراء ما وصفه بتقرير مهمّ عن الوضع المعيشي في البلد قائلاً إن المسيو فرنسيس قدّمه إليه و»أعطاني معلومات دقيقة عن الغلاء وكيف بتطلَع الأسعار وما بتعود تنزل».

 

ولاحَظ شهاب أن أياّ من الوزراء لم يطلب الاطلاع على التقرير، وأن رئيس الحكومة قال إنه يقدّر وجهة نظر المسيو فرنسيس ولا شكّ في أنه خبير ومطلع وأن لديه مجموعة أفكار وإقتراحات على التقرير. وكان كلّ وزير يعلّق ويبدي رأيه ويضيف أفكاراً مفيدة.

 

كان الرئيس شهاب يتحدّث إلى الأستاذ صافي فسأله: «هل تعرف أنت من هو فرنسيس؟».

 

أجاب الزميل: «لا أعرفه ولا أسمع عنه».

 

فقال شهاب: «فرنسيس هو الحلّاق الذي يقصّ لي شعري. وعندما يأتي نجلس معاً فأتركه يتكلّم على سجيّته وأفهم منه أشياء كثيرة، إنه صاحب مهنة يتعاطى فيها مع الناس وهو ربّ عائلة ويشعر بتقلّبات الأسعار في اللحظة ذاتها قبل الوزراء والنواب وأصحاب الشركات والبنوك، ومثل كل اللبنانيين الفقراء والمتوسطين يدفعُ فرقَ الغلاء ويشكو، أما الأغنياء والتجار فيربحون …».

 

ذلك اللقاء مع شهاب أُجريَ على شرفة منزل الرئيس المحاذي للطريق العام. ويقول صافي إن رئيس الجمهورية بادره قائلاً: «اليوم أنا مطرود من البيت، في الداخل نفضة تنضيف بالكامل» وأضاف «لماذا لا تنظف الدولة بيتها كما تفعل ربّات البيوت؟».

 

ولقد توقّفتُ عند هذه القصة من الكتاب القيّم جداّ آخذاً العبر العديدة منها:

 

أولاً- الناس، العاديون، هم الأكثر خبرة في الوضع المعيشي لأنهم أبناء المعاناة والواقع المعيوش أكثر من المسؤولين والخبراء المجازين.

 

ثانياً- النفاق صفةٌ قديمة مثل ذلك الذي سيطر على الوزراء الذين راحوا يُكيلون المديح للمسيو فرنسيس وتقريره من دون أن يطلب أي منهم نسخة ليطلع عليها… وتلك مُدالَسة ومُداهَنة للمسؤول لنيل بركته ورضاه.

 

ثالثاً- اللافت تلك البساطة التي ميّزت الرئيس الأمير اللواء فؤاد شهاب في بيت متواضع تُشرف السيدة زوجته مباشرةً على شطفه وتنظيفه، ولضيق مساحته لم يكن ثمّة مكان فيه ليستقبل رئيس الجمهورية ضيفه فاضطر أن يستقبله خارجاً على كتف الطريق العام! علماً أن التقشّف كان سمة الحياة العامة في لبنان، إلا أن الرئيس شهاب كان يبزّ الجميع في هذا السياق. أما ما بعد الحرب فحدّث ولا حرج.

 

رابعاً- لا يزال السؤال الذي طرحه شهاب منذ ستة عقود مطروحاً اليوم: «لماذا لا تنفض الدولة بيتها كما تفعل ربات البيوت؟».

 

والجواب واضح: حفلة التنظيف هذه لن تتمّ، فكلّما لاحَت بوادره حدث إئتلاف بين حالبي البقَرة فيُوأد كلّ مشروع إصلاحي حقيقي في المهد. ولقد يكون من السذاجة، لا بل من الغباء، التفكير إلى حدّ الإعتقاد بأن قابري الحاج زنكي معاً حلّ عليهم الروح القدس وسيسمحون بسحب البساط من تحت أقدامهم.

 

رحم الله الرئيس فؤاد شهاب الذي كان يُسمّيهم “les fromagistes”، أي أكلة الجبنة.