شكّل دخول الرئيس فؤاد السنيورة على خط الدعوة إلى المشاركة في الانتخابات النيابية، تجنّباً لإخلاء الساحة الوطنية والسياسية وعدم تفويت محطة من محطات النضال سعياً لقيام الدولة، عاملا إضافيا من عوامل الخطر على تطيير الاستحقاق النيابي. لماذا؟
مِن المسلّم به انّ الأكثرية الحاكمة تخوض الانتخابات النيابية من موقع ضعف لا قوة لثلاثة أسباب أساسية معروفة:
السبب الأول مردّه إلى الانهيار الكبير وغير المسبوق الذي أصبح البلد في وسطه، وهذا الانهيار حصل في هذا العهد وعلى يد هذا الفريق بالذات، ومن غير المنطقي ان تعيد الشريحة اللبنانية الصامتة الاقتراع لمَن أوصلها إلى هذه الكارثة.
السبب الثاني يتعلّق بالقناعة التي تولّدت لدى معظم اللبنانيين بأنّ المشروع السياسي الذي يحكم لبنان لم يعد قادرا على الاستمرار وانه وصل إلى الحائط المسدود، ولم يعد من الحكمة ولا المصلحة التجديد لهذا المشروع، إنما المصلحة الوطنية تستدعي الاقتراع لمشروع سياسي آخر قادر على إنقاذ لبنان.
السبب الثالث لأنّ الثنائي الأساسي الحاكم، العهد و«حزب الله»، يفتقد إلى التحالفات السياسية الداخلية التي لم تعد في وارد تجديد التسوية معه، كما يفتقد إلى الغطاء الخارجي في ظل الموقف الخليجي المتشدِّد.
ومن المسلّم به بشكل أو بآخر انّ الأكثرية الحاكمة ستفقد الأكثرية النيابية من جهة، والأكثرية المسيحية من جهة أخرى، وكل محاولاتها لتطيير تصويت المغتربين الذين يصبّ اقتراعهم ضدها بنسبة 80 % باءت بالفشل، ما يعني ان خسارتها للأكثريتين النيابية والمسيحية باتت شبه محسومة، وكل ذلك قبل دخول الرئيس السنيورة على خط التشجيع على ضرورة المشاركة السنية في الانتخابات والذي يشكل دخوله تحولا حاسما بنتيجة الانتخابات للاعتبارات الآتية:
الاعتبار الأول لأنّ ثنائي العهد والحزب كان يراهن على بقاء الجسم السني السيادي خارج إطار المواجهة الانتخابية بعد إعلان الرئيس سعد الحريري عزوفه عن خوض الانتخابات، ولكن من دون ان يدعو إلى المقاطعة، وتركه حرية المشاركة لمن يريد إنما من خارج إطار تيار «المستقبل».
الاعتبار الثاني لأنّ الحزب كان يراهن على قدرته تحقيق مزيد من الاختراقات داخل البيئة السنية وتحديداً بعد موقف الحريري.
الاعتبار الثالث لأنّ الحزب كان يراهن على ان البيئة السنية فقدت مرجعيتها الوطنية ولن تكون جسما مؤثرا في الانتخابات ومقررا على المستوى الوطني، خصوصا ان ما ستفرزه الانتخابات داخل هذه البيئة سيكون كناية عن مجموعة كتل منفصلة وصغيرة، ما يعني خروج هذه الطائفة من الوزن الوطني السيادي.
ومعلوم على هذا المستوى ان قوة انتفاضة الاستقلال في 14 آذار 2005 ارتكزت على الوزن المسيحي والسني والدرزي، وبمجرّد خروج المكون السني من هذا الوزن يعني إضعافا للخط السيادي، خصوصا ان هذا المكون أكثر من محوري وأساسي بسبب امتداده الإقليمي والصراع المركزي ضد إيران وتمددها على مستوى المنطقة.
ومعلوم أيضا أن الهمّ الأساسي لمحور الممانعة منذ العام 2005 كان في كيفية إخراج الطائفة السنية من المواجهة، لأنه يعتبر ان مجرّد خروجها أو تحييدها يجعله ضامناً لإمساكه بمفاصل القرار السياسي، وهذا ما يفسِّر كمّ الاغتيالات التي استهدفت قيادات من داخل هذه الطائفة، واستخدام السلاح في بيروت، وإسقاط حكومة الرئيس الحريري، وكان يعتقد انّ بإمكانه استثمار موقف الحريري لإضعاف الجسم السني السيادي، وهذا الإضعاف سيكون كفيلا بتحييد الجسم «الإشتراكي» ومحاصرة الجسم القواتي.
وما لم يكن في حسبان محور الممانعة ان يدخل السنيورة على خط الانتخابات من باب مشروع سياسي متكامل عنوانه الأساس تحرير الدولة وإعادة الاعتبار للدستور والسيادة والقانون وتطبيق قرارات الجامعة العربية والشرعية الدولية، اي ان يعود السنيورة من باب تجديد مشروع 14 آذار والتشديد على وحدة الصف السيادي، لأن اي إضعاف لهذا الخط يشكل إضعافاً للمشروع السياسي السيادي ويقدِّم خدمة لمحور الممانعة الذي يريد إبقاء لبنان ساحة مستباحة ويخشى من ان تعيد الانتخابات تمكين الفريق السيادي.
ولا يغِب عن بال أحد انّ الرئيس فؤاد السنيورة يشكل جزءا لا يتجزأ من عائلة الحريري، وقيادته هذا المشروع من داخل البيئة السنية لا تعني ابتعاده عن رئيس «المستقبل»، ولا حاجة إلى التذكير بأنه تولّى رئاسة الحكومة الأولى والثانية بعد انتفاضة الاستقلال بقرار مباشر من الحريري، ما يعني ان كل ما يمكن ان يراكمه سيبقى ضمن بيت الحريري وتيار «المستقبل»، خصوصاً ان أحداً لا يستطيع منافسة الحريري على موقع الزعامة، والسنيورة ليس أساسا في هذا الوارد، إنما مقتضيات المواجهة تتطلب تعبئة كل البيئات وتوحيدها لإنقاذ لبنان.
وإذا كان الفريق الممانع يفكِّر في تطيير الانتخابات قبل ان يستجد عامل السنيورة بسبب خسارته المتوقعة للانتخابات التي تختلف جذريا عن الاستحقاق السابق في العام 2018 للعوامل المعروفة المتعلقة بالانهيار وفشل الدولة وتبدُّل نمط عيش الناس والعزلة الخارجية وغياب التحالفات ودخول العهد في الأشهر الأخيرة لولايته، فإنّ دخول السنيورة على خط الانتخابات بمشروع سياسي متكامل سيجعل الفريق الممانع يبحث أكثر فأكثر عن كيفية تطييرها، لأن رهانه على إخراج العامل السني من الانتخابات أو تحييده أو فَرطعته لم يعد قائما، خصوصا ان التوجُّه الذي عبّر عنه السنيورة لا يختلف عن توجُّه دار الافتاء، وكان المفتي الشيخ عبد اللطيف دريان قد عبّر بصراحة عن ضرورة عدم المقاطعة والعودة إلى الدستور واتفاق الطائف.
وإذا كانت الانتخابات النيابية تشكل محطة وفرصة، محطة ديموقراطية للتعبير لا تأتي سوى مرة واحدة كل أربع سنوات، وفرصة لتحقيق التغيير بعد ان لمست الناس لمس اليد خطورة نأيها بنفسها عن الشأن العام، فإن الدينامية السياسية التي أطلقها السنيورة تشكّل بدورها محطة وفرصة، محطة لتوحيد القوى السيادية وتعبئة البيئات اللبنانية السيادية انتخابيا، وفرصة لإحياء مشروع «العبور إلى الدولة».
وإذا كان الخطر الشخصي على الرئيس السنيورة أصبح مضاعفا لأنه دخل على خط المحظور السياسي لدى فريق الممانعة بسبب إعادته استنهاض البيئة السنية وإعادتها للدور الريادي الذي لعبته بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري، فإنّ هذا الفريق لن يوفِّر وسيلة لتطيير الانتخابات من الباب الأمني أو الفوضى، لأن هذه الانتخابات لم تعد تحمل قضية سياسية على غرار انتخابات العام 2009، إنما الأكثرية التي ستكونها هذه الانتخابات سترفض اي تسوية على غرار التسويات السابقة وستتمسك بتسوية بشروط الدولة فقط لا غير، ولذلك، أصبحت الانتخابات في دائرة الخطر.