لم يكن سهلاً على الرئيس ماكرون الاستماع الى البطريرك الراعي يُبلغه أن إرادة اكثرية المسيحيين لا تستسيغ مرشحه المشترَك مع”حزب الله” جالساً في كرسي بعبدا بعد تجربة ميشال عون المُرَّة. وما كان ليبتلع فشل رفع الاليزيه لواء سليمان فرنجية من غير ان يضع نفسه في موقع الحكيم الذي حاول حمل الرعية على القبول بـ”الحل الممكن” فامتنعت، فعاد اليوم لينصحها باستعجال التوافق.
إذا جرَّدنا موقف ماكرون من النفعية، يصير هدفه منع استمرار الفراغ نبيلاً. وفي سبيله لم يرَ حرجاً في تبرير دعمه لفرنجية بحجة انه المرشح الوحيد “الذي نجح بامتحان حزب الله”. وتلك “واقعية سياسية” يمكن لدولة بحجم فرنسا اعتمادها، لكنها لا تناسب تطلعات اللبنانيين الذين ثاروا على الطغمة الفاسدة وسئموا العيش في ظل التهديد والوعيد.
ربما كان ماكرون محقاً في التخوف من شغور طويل يُغرق لبنان أكثر فأكثر في حفرة التردي الاقتصادي. فتجارب التعطيل مع “حزب الله” مؤلمة، ولم تقتصر على انتظار سنتين ونصف السنة لترئيس ميشال عون فحسب، بل طاولت كل المهل المتعلقة بتشكيل الحكومات وتفعيل المؤسسات الدستورية. بيد ان تخويف ماكرون للبطريرك الراعي من مغبة الوقوع في فخ “حزب الله” الراغب في الوصول الى “مؤتمر تأسيسي” يفقُد المسيحيون بنتيجته مواقع أساسية في الدولة، ناجمٌ عن قراءة قاصرة لمجريات الأحداث اللبنانية، أو أنه تهويل ينفض اليد مسبقاً من مسؤولية فرنسا التاريخية تجاه المسيحيين تحديداً، على أساس “اللهمَّ إني بلَّغت؟”.
والأمر يستدعي ملاحظتين. أولاهما، أن “حزب الله” لا يبدو مستعجلاً على مؤتمر تأسيسي يكرس فيه قوته في التركيبة اللبنانية ما دام قادراً على ممارستها العملية بالهيمنة والتعطيل وعبر مسؤولين مسيحيين مستتبَعين. وثانيتهما، أن المسيحيين بمعظمهم ما عادوا يخشون فكرة هذا المؤتمر لأن الصيغة الحالية أثبتت فشلها وعجزها ويتطلعون الى إطار سياسي جديد يضمن نمط عيشهم وسلامهم ويوقف هجرة أبنائهم.
وفي الواقع فإن “حزب الله” يؤمِّن سيطرته على مفاصل الدولة من غير الاضطرار الى تطويب المواقع باسم الطائفة الشيعية. وهو ربما ما يجعل فكرة “ترسيم” قدراته بالنصوص، أفضل للمتضررين من مشروعه، من تركها متحققة بالاستقواء او الإغواء.
قد يكون الاختبار صعباً على المسيحيين وغيرهم. لكن بإمكاننا توقع ما ستؤول اليه الحال لو تمكنت “المنظومة” من تجديد نفسها وحماية كل المرتكبين فيها عبر ايصال فرنجية الى سدة الرئاسة. وإذ ان من السهل توقع تكريسه المحاصصات و”الإفلات من العقاب”، فإن من الأسهل اعتبار أن رأي الحاج محمد رعد في “صندوق النقد” سيكون “خطة التعافي” الاقتصادي التي يعتمدها العهد العتيد لرد “الودائع المقدسة”!.
أفضل مفاجأة سارة للبنانيين اليوم هي انتخاب رئيس إنقاذي أو توافقي يقوم بمحاولة جدية وأخيرة لتطبيق دستور “الطائف” واستعادة الدولة من خاطفيها. لكن، بين رئيس آخر للمنظومة وبين الفراغ، فربما الفراغ أهون الشرَّين. وعندها فليُفتح النقاش وليُعقد مؤتمرٌ تأسيسي، لا لتنازع المناصب داخل التركيبة العقيمة، بل للخروج من المركزية الى صيغة قابلة للحياة تحفظ حق الجماعات والأفراد وتضمن السلم الأهلي في دولة واحدة… ولوقت طويل.