يستعد لبنان لانقلاب سياسي حاد يَتكامَل في السنوات المقبلة، وسيتكفّل بتعديل التوازنات السياسية والطائفية التي تقوم فيه اليوم. وهذا الانقلاب سيشكّل بديلاً من المؤتمر التأسيسي الذي طرحه «حزب الله» مراراً، أو ترجمة عَملانية هادئة لمُندرجاته. وتحضيراً لذلك، يبحث كل طرف داخلي عن الطريقة الفضلى ليبقى على قيد الحياة.
ليس مستغرباً أن يقفز الرئيس ميشال عون إلى دمشق للقاء الرئيس بشار الأسد، من دون إعلان مسبق، فيما كان الوزير جبران باسيل يتمادى في «العناد» ضدّ المرشح الذي يدعمه «حزب الله» والحليف الأقرب إلى الأسد، الوزير السابق سليمان فرنجية.
لا يريد عون أن يُساء فَهْمُ باسيل، لا عند «الحزب» ولا عند الأسد. فذهب إلى دمشق لعلها تتفهَّم أنّ التقاطع بين باسيل والخصوم السياسيين، أي قوى 14 آذار و»التغييريين»، ليس مقصوداً وليس مبنياً على خلفيات سياسية.
أراد عون أن يستعين بالأسد: «ساعِدْنا على تسوية تُنهي سوء التفاهم مع «الحزب»، وسنحفظ لك ذلك دائماً». ولكن، يعرف العارفون أنّ عون، مهما قدَّم من «إغراءات» للأسد، فلن يُقنعه بدعم أي مرشح آخر للرئاسة، ضد صديقه الأقرب تاريخياً.
وفي هذه الحال، ولأنّ المحاولات لِتغيير مسار المعركة الرئاسية ستبوء بالفشل، يمكن لعون على الأقل أن يعود من دمشق بضمانة موقعٍ له ولـ»التيار» في المرحلة المقبلة، فلا يتم «التشَفّي» بباسيل وإضعافه سياسياً، و»استِئصال» أنصاره من المواقع التي يشغلونها في الدولة، ولا يجري تقليص كتلته النيابية فيفقد القدرة على الاستمرار في رفع شعار التمثيل المسيحي القوي.
وهناك محطات متتالية يمكن أن تكون ملائمة جداً لضمور الحالة العونية، أوّلها الانتخابات الرئاسية التي يمكن أن تحدث خلالها انشقاقات تُضعِف «التكتل». وبعد ذلك، يأتي استحقاق تشكيل الحكومة التي يمكن أن يتراجع فيها تمثيل «التيار» كَمّاً ونوعاً. وكذلك، هناك الانتخابات البلدية التي ستشكل اختباراً أولَ للانتخابات النيابية التي سيحلّ موعدها بعد 3 سنوات من الآن.
يقول البعض إن زيارة عون لدمشق جاءت لـ»حفظ ماء الوجه» من جهة، و»لحفظ رأس «التيار» من جهة أخرى. فقد ثبتَ للجميع أنّ هناك اتجاهاً إقليمياً- دولياً لإعطاء محور طهران، ودمشق ضمناً، دوراً وازِناً في لبنان، في سياق ورشة التسويات التي يجري إعدادها.
وما يدعم هذه المعطيات هو مُسارعة فرنسا إلى رمي حجرٍ في مستنقع مبادرتها اللبنانية، المبنيّة على ثنائية فرنجية- نواف سلام، بتسليمها إلى الديبلوماسي المُحنّك، صاحب التجربة الأوثق مع المملكة العربية السعودية، جان إيف لودريان. وتؤكد أجواء باريس سَعي الرئيس إيمانويل ماكرون إلى خلق دينامية تؤدي إلى تحقيق تقدُّم في هذه المبادرة.
وهاجس ضمان الموقع في المرحلة المقبلة لا يقتصر على عون وباسيل وتيارهما. فقوى 14 آذار المسيحية ستكون مُرغمة على خوض مرحلة صعبة من سيطرة محور طهران، فيما الحلفاء في الخارج نَفَضوا أيديهم تقريباً.
فالمملكة تقوم بإنضاج طبخة واسعة النطاق مع إيران، برعاية صينية، فيما تتّصِف سياسة الولايات المتحدة بالتردُّد بين الإقدام على ملفات المنطقة والانسحاب منها. ومن المؤشرات إلى برودة الاهتمام بالملف اللبناني، المعلومات التي تحدثت عن أنه لم يكن مُدرجاً على طاولة البحث، في زيارة وزير خارجية واشنطن أنطوني بلينكن للرياض.
إذاً، إنها «ساعة التخلّي»، كما يصفها بعض الكوادر في 14 آذار. وبدرجاتٍ وأشكال متفاوتة، كل القوى الحليفة إقليمياً ودولياً ساهمت في هذا «التخلّي»: فرنسا انقلبت تماماً، السعودية تدفع إلى تسهيل التسوية بأفضل الطرق، والولايات المتحدة تفاوض المملكة، وعينها على استئناف المفاوضات مع إيران، فيما هاجسها إبعاد الصين عن معقلها الشرق أوسطي وصيانة أمن إسرائيل.
وفي العامين الأخيرين، بقيّ هاجس واشنطن اللبناني مُنصبّاً على «إقناع» السلطة (التي لا أحد يقرّر فيها خارج «حزب الله») بتوقيع اتفاق الترسيم بحراً مع إسرائيل، لتسهيل مرور الغاز إلى أوروبا المأزومة بحرب أوكرانيا. فهل صحيح ما يتردَّد عن أنّ الاتفاق قد تحقّق بصفقةٍ غير منظورة؟
وكما 14 آذار و»التغييريون»، هناك آخرون يبحثون عن ضمان رؤوسهم في المرحلة المقبلة، وأبرزهم: قادة الطائفة السنّية عموماً، وكذلك الوزير السابق وليد جنبلاط الذي «زاحَ» جزئياً من الطريق، وأتاحَ لتيمور أن يُمسك جزئياً بالمبادرة في حزبه، فترك اللعبة عالقة وفتح الباب لمقايضة في الملف السياسي تُعقد في أي لحظة، بالتنسيق مع صديقه الرئيس نبيه بري.
في «ساعة التخلّي»، على الأرجح، سيُتاح لمحور طهران أن يبرم صفقة ثمينة في لبنان لـ6 سنوات مقبلة، وفيها سيُمسِك بزمام السياسة والاقتصاد والمال والإدارة والأمن والعسكر. فلبنان يوشِك على الفراغ في العديد من المواقع الحسّاسة في كل هذه المجالات، كما في رئاسة الجمهورية. وهي كلها سيشغلها المحور، فقط لا غير، كما موقع الرئاسة. فهل مِن داعٍ بعدُ للمؤتمر التأسيسي وأوجاع الرأس التي يتسبّب بها؟