لبنان فكرة مسيحية انضمَّ إليها المسلمون تباعاً. كان الشرق يَخرج من ظلام الاحتلال العثماني، حاولَ العرب الحصولَ على دولة بموجب وعد إنكليزي، فشلوا، وكان مشروع سايكس – بيكو جاهزاً لإعلان ولادة الدوَل الوطنية الحديثة انطلاقاً من العام 1920.
«لبنان الإمارة» قام على ثنائية مارونية – درزية بدَت الوقائع أقوى منها. و«لبنان الكبير» قام على تفاهم سنّي – ماروني مضطرب، وكذلك كان الاستقلال. ولبنان «إتّفاق الطائف» أبعَد العنصر المسيحي عن الشراكة بفعل الوصاية الأميركية – السورية – السعودية.
وعبر 15 عاماً «حَكَمَ» خلالها «المسلمون» البلد، تغيَّرَ لبنان كثيراً، وتراجَع دورُه الثقافي والفكري، ولم يعُد يمثّل أيّ قيمةٍ مضافة في هذا الشرق. لم تكن المشكلة في تغيُّر حال المسلمين وتقدّمِهم، بل في تراجُع المسيحيين وضمور حضورهم الفعّال على المستويات المختلفة.
كان هذا أشبَه بمؤامرة على البلد، تنزَع منه فَرادته وتُبدّدها بين مصالح الدوَل، القريبة والبعيدة. والنتيجة أنّ الجمهورية اللبنانية تَطير بجناح واحد منذ العام 1990، ولم يَظهر أنّ هذا الجناح قادرٌ على التحليق بمفرده.
عشرة أشهر عمر الفراغ في قصر بعبدا. وقد يستمرّ هذا الفراغ طويلاً. البَلد ماشي نعم، ويقول البعض «إنّنا لا نشعر بهذا الفراغ!»، وهذا صحيح ربّما. لكن ما لا يتنبّه إليه كثيرون، وفي مقدّمهم المسيحيون، أنّ كلّ يوم يمرّ بلا رئاسة ورئيس، إنّما يخسَر فيه لبنان ميزةً من مميّزاته، وخاصّيةً من الخواص التي بُنِي عليها الكيان وكانت المعنى الحقيقي لمفهوم «البلد الرسالة».
كلّ ذلك، في منطقة يُعادُ رسمُها على غرار ما حدثَ عقبَ سقوط السَلطنة العثمانية، وأمام مخاطر تُهدّد الثقافات والجماعات، وفي ظلّ نموّ التطرّف وطغيانه، والهجرات الجماعية التي نشاهدها، وعمليات التغيير الديموغرافي والتدمير الممنهَج للتاريخ والأثر والتراث.
الجميع يتحمّلون المسؤولية. لا يكفي أن يضعَ «المسلِمون» الكرة في الملعب المسيحي، ويتنصّلوا من مسؤولياتهم بالقول «إنّنا مع ما يتّفق عليه المسيحيون». ثمّة وظائف وطنية حيوية ملقاة على المسلمين وأهمُّها الحفاظ على الصيغة والميثاق والشراكة والمناصفة.
ولا يجوز أن تتقاذفَ القيادات المسيحية الاتّهامات بالعَرقلة، فيما تكتفي بالقدرة على التعطيل، وذلك في ظلّ غياب مخيف للنخبة المسيحية التي كانت ذات يوم رائدة النهضة العربية مِن مصر إلى العراق وبلاد الشام.
أين هي النُخَب المسيحية؟ ألم تنتهِ مرحلة «الإحباط» بخروج الجيش السوري واستعادة السيادة؟ لماذا ليس هناك شارل مالك وشارل قرم وموريس الجميّل وسعيد عقل وفؤاد بطرس وميشال شيحا وغيرهم؟
لا يكفي القول بالذهاب نحو «اللعبة الديمواقراطية»، البلد في مأزق واسع منذ العام 2005، استعاد السيادة ولم يَستعِد الجمهورية، حقّقَ المسيحيون مطالبَهم التي رفعوها في التسعينات، كلّ شعارات تلك المرحلة تحقّقَت، لماذا لم يعُد العنصر المسيحي إلى فاعليته، وأين يكمن الخَلل؟
المشكلة ليست فقط في موضوع الرئاسة. غداً قد يُنتخَب رئيس جديد للبلاد، لكنّه سيكون كمَن سبقَه، واجهةً لترميم الخَلل في المجتمع والأحزاب والنُخَب والمثقّفين إذا وُجِدوا. لبنان أمام تحدّيات كيانية أكبر من ملف الرئاسة، والغياب المسيحي عن الحيوية الوطنية أخطرُ ما يتعرّض له لبنان، وفي هذا الصَدد لا مغامرة في القول إنّ حالَ البلد لن تستقيم إلّا إذا استقام الواقع المسيحي وعاد إلى دوره وحيويته التاريخية. لبنان فكرةٌ مسيحية نضَجت.
المسلمون اقتنعوا ويقتنعون وسيقتنعون أكثر بجَدواها وأهمّيتِها في هذا الشرق، وأصبحَ شعار «الوطن النهائي» محلّ إجماع لدى جميع الأطراف بمن فيهم «حزب الله» الذي أعلنَ أمينُه العام السيّد حسن نصرالله أنّه على خطى الإمام موسى الصدر في فَهمِه للبنان.