المسؤولون مشغولون بمعارك سلطوية شعبوية صغيرة في أزمة بنيوية عميقة. أزمة أخطر من وجوهها الوطنية والسياسية والمالية والإقتصادية والإجتماعية. والكل يعرف أن الإنهيار وصل الى حد لم يعد ممكناً وقفه والخروج منه بالتسويات الموقتة والصفقات المألوفة وبقية الوسائل التقليدية منذ الإستقلال حتى اليوم. فليس أمامنا سوى تغيير اللعبة حتى على أيدي اللاعبين المخضرمين والجدد المحاصرين بأزمة وجود مصيرية تجبرهم على التسليم بإستحالة الإستمرار في الستاتيكو الجهنمي الحالي. واللعبة الجديدة تبدو محور صراع بين مشروعين، بصرف النظر عن موازين القوى وقراءتها وربطها بموازين قوى ومصالح إقليمية ودولية: مشروع إستعادة لبنان وتجديد بنائه وتجدد رؤيته لدوره كمغامرة حرية و”بلد-رسالة” في الشرق. ومشروع إعادته الى نقطة الصفر وإقامة “لبنان آخر” على قياس قوة صاعدة تريد “تصحيح التاريخ” قبل قرون وبناء الحاضر على”ماضٍ أفضل”.
المشروع الأول يحتاج الى ما يتجاوز الإنتخابات والتغيير فيها الى كتلة شعبية تاريخية عابرة للطوائف والمذاهب، مؤمنة بالمواطنة، وقادرة على دفع القيادات الى التخلي عن حساباتها الضيّقة وعلى إنتاج قيادات جديدة. والمهم ليس فقط الرؤية والإصرار على أن يشمل التغيير الدولة والمجتمع بل أيضاً على قراءة واقعية لحسابات القوى الإقليمية والدولية. قراءة التشابك والتناقض بين حساباتنا وهذه الحسابات، بعيداً من الكسل الفكري والتصرف كأن العالم سيخوض حرباً لإنقاذنا من أنفسنا.
المشروع الثاني كانت بدايته الدعوة الى “مؤتمر تأسيسي” جرى سحبها علناً بعد الإعتراض عليها. غير أن الإعتراض كان على نقطة “المثالثة بدل المناصفة”. والمشروع أبعد وأعمق. فهو أيضاً تغيير المجتمع والدولة، ولكن بفعل إيديولوجي ثيوقراطي ضمن أبعاد إستراتيجية. والظروف لم تنضج بعد لمثل هذا المشروع. فضلاً عن كونه يلغي “رسالة” لبنان وهويته ويصطدم بوقائع العالم العربي ويواجه مقاومة محلية وتحديات إقليمية ودولية.
ذلك أن الطريق الى “مؤتمر تأسيسي” طويل وصعب ومتعرج ومملوء بالحواجز. أبسط ما يحتاج إليه عبور الطريق هو إكتمال الإنهيار السياسي والمالي والإقتصادي، وتفكيك ما بقي من جيش وقوى أمن وقضاء وإدارة مع الإمساك بكل مفاصل السلطة ورئاساتها، وإقامة دولة موازية بالتدريج شعارها: ما لنا لنا وحدنا وما لكم لنا أيضاً. فضلاً عن عزل لبنان عن العرب والغرب. والرهان هو على قوة اليأس، بحيث تستسلم الناس أمام فكرة التأسيس من دون حاجة الى “إنقلاب” بقوة السلاح. لكن الحسابات واقعة تحت “إغراء” القوة والتصور أن التطورات الإقليمية تتحرك في اتجاه واحد. والقوة ليست قوة حين يصبح إستعمالها خطيراً في الداخل ومعاكساً للتطورات الحقيقية في الخارج.
يروي الرئيس نيكسون في كتاب “قادة” أن الجنرال ديغول قال له: “فرنسا لم تكن مرة هي نفسها إلا عندما انخرطت في مغامرات عظيمة”. ولبنان لن يكون نفسه من دون أن يجدد مغامرته في الشرق.