ثمّة طروحات صبيانيّة يتقدّم بها بعض المبتدئين في السياسة الذين يكررون معزوفة الدعوة إلى مؤتمر تأسيسي يعيد تنظيم مرتكزات النظام السياسي اللبناني، وفق عناصر جديدة مغايرة نوعياً عن تلك السائدة راهناً التي هي قيد التطبيق (أو قيد التعطيل). ولكن، إذا كانت هذه الطروحات من قبل البعض تعكس خفّة في السياسة وفهماً مسطحاً لتعقيداتها، فإن سلوكيّات البعض الآخر، ولو إبتعدت عن المجاهرة بهذا المطلب علناً، فإنها تصب في هذا الإطار وهذا الهدف بشكل مباشر أم غير مباشر.
ليس التمسك بصيغة النظام الحالي هو الخيار السياسي الأمثل لا سيّما أنه نظام طائفي مذهبي مقيت يكرّس الفوارق بين اللبنانيين ويصنّفهم فئات ودرجات بحسب مواقعهم الطائفيّة. وليس القول بأن إستهداف النظام الحالي ينطلق من الدفاع عن مندرجاته التي تعاني من الكثير من عوامل الفشل التي عكست نفسها في الحياة الوطنيّة والسياسيّة.
ولكن، لا مناص من الاعتراف بأن أي صيغة سياسيّة أو ميثاقيّة جديدة من شأنها أن تترجم موازين القوى السائدة، فتتمظهر من خلال معادلات جديدة مغايرة تماماً عن تلك السارية المفعول في هذه اللحظة. لقد وُلد إتفاق الطائف في لحظة سياسيّة دوليّة- إقليميّة- عربيّة- محليّة معيّنة، وأي إتفاق بديل يحتاج إلى لحظة مماثلة يكون التوازن عنواناً أساسيّاً فيها وإلا تكرّس الاختلال المحلي الذي جر البلاد إلى الويلات.
إن الانهيارات المتتالية على المستويات الإقتصاديّة والإجتماعيّة والماليّة إنما تؤكد أن ثمّة مصلحة خفيّة للقوى التي تريد الذهاب بالبلاد نحو مشاريعها وأهدافها المدعومة من المحاور الإقليميّة، والتي تستفيد حتماً من حالة الترهل المؤسساتي التي تعاني منها الدولة وهي الآخذة في التوسع نتيجة الإعتباطيّة القضائيّة في الملاحقات والانتقائيّة في المحاسبة تلبية لمطالب سياسيّة.
كما أن حالة الإفقار الجماعي اللبناني التي باتت تماثل أكثر الدول تخلفاً تصب أيضاً في هذا الهدف من خلال تحويل الإهتمامات والأنظار نحو سبل الخروج من القعر، وإشاحة الظهر للقضايا الاستراتيجيّة الكبرى مثل الخيارات المطلوبة في السياسة الخارجيّة اللبنانيّة والخطة الدفاعيّة، التي جُمّد النقاش فيها منذ سنواتٍ طويلة وأصبحت المطالبة بها تبدو وكأنها فعل خيانة عظمى من قبل البعض، أو في ملف علاقات لبنان العربيّة التي تدهورت بشكل غير مسبوق…
لقد تقلص ذاك الهامش البسيط الذي كان قائماً بين قوى المقاومة وبين الدولة إلى حدوده الدنيا. لم يعد ثمّة مساحة بين الأداء الرسمي وبين أداء تلك القوى التي صارت تسيطر تماماً على الساحة وعلى المسار العام. مسيّرة «حسّان» من هنا، مؤتمرات إستفزازيّة لدول الخليج العربي من هناك، مواقف عالية النبرة ضد الأشقاء العرب… إلى ما هنالك من خطواتٍ تؤدّي عمليّاً إلى المزيد من خطوات العزل للبنان عن محيطه العربي، وتالياً المزيد من الانكفاء العربي تجاه لبنان، ونتيجة ذلك الحتميّة: إختلالات إضافيّة في موازين القوى المحليّة.
لم يُسمع أي تعليق رسمي لبناني على إطلاق المسيّرة من جنوب لبنان، مجرّد تعليق، رأي، وجهة نظر. إنه المسار الانحداري ذاته الذي أصبح يطبع الخطاب الرسمي اللبناني منذ إنتخاب العماد ميشال عون إلى كرسي الرئاسة الأولى في تشرين الأول 2016. لقد جعل الرئيس عون تفاهم مار مخايل، بدل الدستور اللبناني، هو الكتاب الذي يرتكز عليه في إصدار مواقفه، وجعل أولويّات «التيّار» الذي كان يرأسه هي أولوياته في الحكم بدل أن يولي المصلحة الوطنيّة العليا الإهتمام الكامل ويعمل وفق منطوقها.
هل هي مصادفة أننا وصلنا إلى جهنم؟