واضح أنّ هناك شيئاً ما يختبئ خلف الستارة. فليس منطقياً أن تتصاعد الأزمة النقدية والمالية والسياسية في لحظة انفراج «تاريخي» يحظى بتغطية داخلية وإقليمية ودولية نادرة، وفيما الولايات المتحدة تنتقل من وضعية المحاصِر للحكومة اللبنانية و»حزب الله» إلى وضعية الانفتاح عليهما.
عندما تمّ الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، كان منطقياً أن تكرَّ سريعاً وتلقائياً إيجابيات كثيرة، أقلُّها تراجع سعر صرف الدولار في السوق السوداء بتأثير من الصدمة. ففي ذروة الأزمة، بقي سعر الدولار يتراجع بتأثير من بعض الإيجابيات، ولو كانت مصطنعة ولو كان حجمها أدنى بكثير من الترسيم.
لذلك، من المستغرب أن يقفز الدولار بقوة في لحظة الإعلان عن الاتفاق على الترسيم وتقاسم الغاز. بل إنّ كثيرين كانوا يتوقعون أن يخلق مناخ التوافق على الترسيم إيجابيات على المستوى السياسي الداخلي، فتُشكَّل حكومة جديدة ويتمّ انتخاب رئيس للجمهورية، لضرورات الاستقرار الخارجية والداخلية. لكن هذه الإيجابيات لم تتحقق، حتى الآن على الأقل.
يعني ذلك أنّ بعض الصفقة ما زال قيد الإنضاج أو التظهير بين طرفيها الحقيقيين: الولايات المتحدة والغرب من جهة، وإيران وحلفائها اللبنانيين من جهة أخرى.
في تعبير أكثر وضوحاً، هناك من يطالب بتحصيل أثمان إضافية قبل تسهيل الأمور. فإما أنّ الأميركيين والغرب يريدون من «حزب الله» مزيداً من التنازلات، وإما أنّ «الحزب» يريد المزيد من المكاسب ليضطلع بدور أكبر في تسهيل الأمور.
واقعياً، تنازلت السلطة اللبنانية و»حزب الله» عن الخط 29، بما يكتنز من مخزونات نفطية هائلة، وأبرزها «حقل كاريش». ولكن المقابل هو أن يبادر الأميركيون إلى فكّ الحصار المضروب على «الحزب»، وأن يتكرّس الاعتراف بموقعه القوي داخل التركيبة اللبنانية.
أي سيكون على الغربيين أن يعترفوا لـ»حزب الله» بأنّه هو الذي «ضحّى» لصنع التسوية وإمرارها وتصويرها انتصاراً، وقد كان قادراً على التشدُّد وتعطيل التسوية بتصويرها انهزاماً، كما يتشدَّد في مزارع شبعا وملف الترسيم براً.
ثمة مَن يقول: عبر التاريخ، كل المعاهدات التي عقدت بين الأعداء كانت تتحمَّل القراءة من وجوه مختلفة. فالأطراف المعنيون بها هم الذين يتكفلون بتغليب أحد التفسيرين السلبي أو الإيجابي، وفقاً للمصالح أو لموازين القوى.
وفي الواقع، يحتاج الأميركيون والغرب إلى «حزب الله» في لبنان بعدما ثبت لهم أنّه الأقوى والأقدر على إدارة الدفة، بعدما جرّبوا الأساليب الكثيرة على مدى سنوات لإضعافه، من الحصار إلى انتخابات الربيع التي جاء مردودها أقرب إلى المهزلة.
ومن قواعد اللعبة السياسية أن يفكر الأقوياء في التعاون مع الخصوم إذا تبيَّن أنّ الحلفاء عاجزون عن اتخاذ القرار. وهكذا، فإنّ الولايات المتحدة وفرنسا وضعتا اليد في يد «حزب الله» في ملف الترسيم، لأنّه وحده القادر على الحسم في لبنان.
ولكن، واقعياً، لا يمكن أن يقتصر هذا التعاون على الترسيم، لأنّ «حزب الله» الذي أعطى لتسهيل التسوية في هذا الملف سيأخذ في ملفات أخرى. فهو سيطالب برفع الحصار عنه، والاعتراف به كمُحاور وصاحب القرار الأول داخل الحكومة اللبنانية.
يعني ذلك أنّ «الحزب» سيتمتع بتغطية حقيقية، دولية وإقليمية، لموقعه المتقدّم داخل السلطة والنظام في المرحلة المقبلة. وهذا ما يفسّر الكلام الذي تردّد أخيراً عن اتجاه إلى عقد مؤتمر حوارٍ وطني، سواء في سويسرا أو فرنسا، أو في الداخل بمبادرة من الرئيس نبيه بري.
فهذا المؤتمر سيكون مناسبة لإبرام عقد وطني جديد، كما قال الرئيس إيمانويل ماكرون قبل عامين. وعلى الأرجح، سينطلق من الطائف لابتداع أسس جديدة للنظام، بعضها يخرج عن هذا الاتفاق وبعضها الآخر يستظل به.
ولأنّ الاتفاقات تترجم موازين القوى في العادة، فإنّ العقد المنتظر سيرجح كفة «حزب الله» والمكوّن الشيعي الذي لطالما اعتبر نفسه مهمشاً في تركيبة العام 1943 المارونية- السنّية.
ثمة مَن يعتقد أنّ الظروف التي وصل إليها البلد تتيح للقوى الشيعية أن تحصل على المكاسب من دون عناء المؤتمر التأسيسي ومخاطره. لكن بعض ملامح المرحلة يشير إلى أنّ المؤتمر ربما يبقى حاجةً لا يمكن تجاوزها، من أجل تكريس التغيّرات بشكل واضح وفي صميم الدستور.
طبعاً، هذا الأمر يفسّر استنفار المملكة العربية السعودية والقوى الداخلية الأخرى، وبقوة، لإحباط المبادرة السويسرية وأي محاولة مماثلة لإعادة النظر في الطائف. لكن البلد لا يبدو قادراً على حلّ أبسط المشكلات الدستورية والسياسية في ظل الخناق الحالي، حيث الجميع عاجزون، ووحده «حزب الله» قادر على تحقيق الإنجازات التي يريدها.
ولذلك، يُفترض بالقوى الداخلية جميعاً أن تقرأ المرحلة جيداً. فموافقة «حزب الله» على الترسيم ستترك بصماتها على تركيبة السلطة والنظام في لبنان. وقد تقتضي الآلية عقد المؤتمر التأسيسي الذي لطالما تحدث عنه «الحزب»، وفي شكل واضح، إذا سمحت الظروف. وأما إذا قوبلت باعتراضات واسعة، فقد تتخذ أشكالاً أخرى مموَّهة، لأنّ المهم هو الهدف.