يروي الحاج صالح كنعان رحلته، أيام الصبا، من بوداي إلى المنبع الأول لنهر الليطاني في العلاق، بلدته. كان يسقي بقرات العائلة هناك على ضفة النهر الذي كان يتفجر من عشرات عيون الماء الصغيرة. وهناك تعرف إلى زوجـــته التي احمرت وجنـــتاها خجلاً فيما كان الحاج يستفيض بالكلام عن إعجابه بها من النظرة الأولى.
على ضفة النبع عينه، الذي يقع على بعد 10 كليومترات غرب بعلبك، حيكت قصص كثيرة شبيهة بقصة الرجل الثمانيني وشريكة عمره. يومها كانت عيون الماء المتدفقة على مساحة لا تقل عن كيلومتر، ترشّح العلاق لتكون «مرجعيون» البقاع. وهناك كان الليطاني يخط سيره الأول شمالاً بعكس مجراه الطبيعي، ليعود ويلتقي بنبع الأربعين الهادر من شلالات اليمونة، فينعطف به الرافد الأقوى في قضاء بعلبك، نحو الجنوب، ليترك لعاصي الهرمل صفته التي يتفرد بها بين أنهار لبنان، بالجري شمالاً، عاصياً الطبيعة.
اليوم يمتد موقع عيون نبع العلاق «حفرة نفرة» أمام منزل الحاج صالح. مضت ثلاث سنوات على توقف الينابيع عن التفجر حتى في عز الشتاء. تشققت الأرض متناغمة مع المناخ شبه الصحراوي للمنطقة. وعليه يبدأ الليطاني من منبعه فارغاً إلا من نفايات وبقايا زراعية وحيوانية ترمى فيه بلا هوادة.
يقول الحاج صالح إن قوة تدفق النبع وعيونه كانت غزيرة بما يكفي لتمتد بركتها على نحو 15 دونماً من الأراضي، محولة العلاق إلى جنة غناء.
على مجرى النهر كانت النباتات المائية من قصب و «حلفة» ومعها أشجار الحور والصفاف تشكل جاذبا للطيور وفراخ البط الجوي والبري، وطبعا لهواة الصيد.
ليس بعيداً عن النبع ينتصب تل العلاق الذي يقول الحاج صالح إنه من نتاج حفر بركته المترامية الأطراف. اليوم تغزو المنازل التل بعدما كان الأهالي لا يتــــجرأون على وضع مـــــدماك واحد عليه، وهو ما يعتبره الحاج صالح دليـــــلاً على كلامه عن التل الاصطناعي.
فرغ النهر اليوم ومعه بركته من أي أثر للماء، والعلاق نفسها شبه فارغة من أهلها شأنها شأن معظم المناطق النائية في كل لبنان، حيث يتفرغ المسؤولون والقوى السياسية لصراعاتهم والمحاصصة بعيدا عن الإنماء المتوازن، كحق أساسي لمواطني الأطراف ومناطقهم.
يقول مختار العلاق عادل كنعان إن ثلث أبناء القرية هاجروا خارج لبنان (نحو ألف شخص من أصل ثلاثة آلاف عديد سكانها) فيما نزح ثلث أخر إلى بيروت وضواحيها. لم تعرف البلدة مستوصفاً إلا عندما تسلمت ابنتها، نعمت كنعان، منصب المديرة العامة في وزارة الشؤون الاجتماعية، وشغل ابنها زاهي كنعان وظيفة «المدعي العام»، وفق المختار الذي أصرّ على لحظ فضل ابني الضيعة على أهلها.
لم تلتفت الدولة يوماً إلى نبع الليطاني الأساسي. تُرك الحرم من دون حماية أو حتى لفتة تنظيمية ودراسات. مصلحة مياه الليطاني نفسها لا تضم إلى حقل عملها كل القطاع الشمالي من حدود قب الياس في البقاع الوسط وصولاً إلى العلاق، وكأن هذه المنطقة خارج لبنان، ولا تحتاج تلك الآلاف من الهكتارات مع أهلها المزارعين بالفطرة والضرورة، للري أو مياه الشفة.
الآبار وحفر الصرف الصحي
ومع إدارة الظهر الرسمية عكف الناس على تدبير شؤونهم. حفروا الآبار الارتوازية العشوائية (حوالي ثلاثين بئراً في محيط النبع) فساهمت في جفاف منبع الليطاني، بالإضافة إلى سنوات الجفاف التي استجدت على مناخ لبنان. تعبت الناس من استجلاب الماء على الدواب وظهور النساء والأطفال حين لم تمدهم الدولة بحاجتهم منها.
الآبار نفسها، ووفق أبو صالح، والمختار عادل، ملوثة بمياه حفر الصرف الصحي العشوائية في ظل عدم استحداث شبكة للمياه المبتذلة. «شو منعمل؟ منضل معتـــمدين على البرية عندما نريد أن نقضي حاجتــــنا؟»، يسخر أحد أبناء العلاق لدى الحــــديث عن تسبب الناس بتلوث ينابيعهـم.
إهمال البلدة أدى إلى نزوح معظم أهلها، ومعه تدني التعليم الرسمي، دفع بوزارة التربية لإقفال المدرسة الرسمية اليتيمة في العلاق. وعليه، صار أطفالها وتلامذتها يقصدون بعلبك ومحيطها طلباً للعلم في نهارات الشتاء القارس كما في عز الحر مع حلول حزيران، شأنهم شأن تلامذة حوش بردى وعين السودا جارتيها.
ما زالت العلاق، كما عين السودا جارتها، ورافدة الليطاني بالنبع الثاني (نبع عين السودا) يحتفظان بمشهد يعود إلى زمن غابر. يحمل الأهالي غالوناتهم في البلدتين متجهين نحو بعلبك للتزود بمياه الشفة.
لا يملك الحاج أكرم، من عين السودا، سيارة يصل بها إلى مدينة الشمس فاحتفظ ببغل من سلالة بغال ورثها عن أبيه، ليضع غالوناته في الخرج ذهابا وإياباً. هنا تمضي الحياة خارج كل ما يحدث في المدن البعيدة، ما زال شظف العيش والنضال المستمر للبقاء سيد الموقف.
لم يبق اليــــوم من نبع «عـــين السودا» إلا ذلك التراب الذي أخــذت العين منه اسمها. تربة أقرب ما تكــــون إلى التربة البركانية.
الكهرباء والإقطاع
يشير ابن عين السودا وائل عمر إلى عمق الأراضي الزراعية حيث تمر شبكة الكهرباء في «الفلاحة» بعيدة بنحو الف متر عن الطريق المعبدة. هنا قررت الدولة وضع أعمدة الكهرباء مراعية مصالح الإقطاعيين من ملاك أراضي القرية. اليوم، وإثر شراء آل عمر عقارات في عين السودا بعدما كانوا يشتغلون عند ملاكها، بقيت شبكة الكهرباء على حالها قبل عشرات السنين. تحصل الأعطال فتبقى الكهرباء مقطوعة عن الناس لغاية وصول فريق شركتها إلى الأعمدة. قد يستغرق الأمر شتاء أكثر من شهر.
يعيش أهالي عين العلاق وعين السودا من الزراعة بالدرجة الأولى، فيما يشكل العمال السوريون الوافدون من الخيم العشوائية المزروعة على ضفتي النهر، عماد الأيادي العاملة في شك الدخان و»حواش» الخضار، والاهتمام بمزارع الدواجن المنتشرة بكثافة في المنطقة.
كانت حصص المياه تتسبب بمشاكل بين أهالي القرى قبل هذا الزمن، خصوصا عندما كان أصحاب القرار يخصون كبار الملاكين وبعضهم إقطاعيين، ملاك عين السودا مثلاً ومن ثم حزين، بالحصة الأكبر. اليوم تغيرت الحصص ولكن النتيجة واحدة: عندما يستغل سكان القرى الأقرب إلى شبكات الماء ومجرى نبع الأربعين كامل المياه، تعطش أراضي العلاق وعين السودا وحوش بردى، ويعتمدون على مياه الآبار للخدمة والري فقط على محدوديتها.
نشأت عين السودا كقرية في ستينيات القرن الماضي، بعدما جاء أهلها من النبي رشادة ليعملوا عند آل الهراوي الذين كانوا الملاكين الأصليين. اشترى الوافدون الجدد عقارات مع الوقت ونقلوا قيود نفوسهم إلى قريتهم المستحدثة. وبعد أكثر من نصف قرن على تمركزهم فيها، لم تمد لهم دولتهم خط هاتف عمومي ولا شبكة ماء أو صرف صحي، ولولا الهاتف الخلوي لعاشوا «مقطوعين» عن العالم، كما يقول عمر.
مع جفاف نبع عين السودا يفقد الليطاني رافده الثاني. وإثر توقف تدفق نبع الأربعين من اليمونة، يكمل مجرى الليطاني طريقه جافاً عابراً حوش بردى التي تقع بين العلاق وعين السودا. مجرى خال من أي نقطة ماء لكنه «عامر» بالتعديات والنفايات الصلبة. وحدها الآبار الارتوازية التي حفرت في حوضه تتحدث بمياهها الملوثة عن الأثر السلبي لغياب سياسة مائية رسمية تحفظ حرم الينابيع كما ينص القانون الذي ما زال سارياً منذ أيام العثمانيين ولا يطبق.
هناك في العلاق وعين السودا وعلى طول مجرى الليطاني دق اسفين الإهمال الرسمي الأول في نعش اغتيال الحوض وأهله.