على رغم الأسابيع القليلة الفاصلة عن الانتخابات النيابية، فإنّ الأحداث السورية الأخيرة نقلت الاهتمامَ بشكل كبير من لبنان إلى سوريا.
في أقلّ من 24 ساعة تبدلت كل الأولويات وأصبحت الأنظار شاخصةً باتّجاه التطورات المستجدة على خط التهيئة الغربية لضربة عسكرية على مواقع للنظام السوري رداً على استخدامه السلاح الكيماوي في دوما.
وهذا لا يعني أنّ الانتخابات في خطر، إنما المزاج العام تحوّل باتّجاه الأحداث السورية باعتبارها من طبيعة صراعية دولية وإقليمية، حيث إنّ المواجهة هي غربية-روسية على الأرض السورية، والجميع في انتظار معرفة حجم الضربة العسكرية ليُبنى على الشيء مقتضاه.
فإذا كانت الضربة محدودة في الزمان والمكان، وهذا ما هو متوقع بمعزل عن حجمها الكبير المتوقع، فيعني أنّ المقصود رسالة سياسية إلى موسكو وطهران أكثر منها رسالة عسكرية، وأما إذا كانت شاملة وترمي إلى إسقاط النظام، وهذا ما هو مستبعَد حتى لو أدّت إلى شلّ حركة النظام، فيعني دخول المنطقة في مرحلة جديدة مفتوحة على شتى احتمالات التصعيد والمواجهات.
وبما أنه من غير المتوقع أن تؤدّي الضربة إلى توسّع رقعة الحرب إقليمياً، لأنّ موسكو لن تردّ ولا طهران بطبيعة الحال، فإنّ الردود ستقتصر على الجانب السياسي، وهذا الجانب بالذات هو المهم كونه يحمل في طياته أربع رسائل أميركية أساسية:
الرسالة الأولى إلى موسكو بأنّ أيَّ تسوية أو حلّ في سوريا لن يكون عن طريق تفرّد موسكو بالحل، والهدف من الضربة ترسيم حدود الدور الروسي في سوريا، بمعنى كل محاولات القضم العسكري الجارية على قدم وساق من أجل وضع الجميع أمام أمر واقع ميداني لن تمرّ، وأيّ تسوية لن تكون نتيجة معطيات عسكرية، إنما نتيجة عوامل سياسية تأخذ في الاعتبار لجم الدور الإيراني وعدم تغييب الدور السعودي.
الرسالة الثانية إلى طهران بأنّ دورها الإقليمي غيرُ مرغوب وتحديداً في سوريا لسببين: لأنّ سوريا تشكّل الجسر باتّجاه لبنان والداخل الفلسطيني والإسرائيلي، وبالتالي المطلوب قطع هذا الجسر نهائياً، والسبب الثاني منعاً لتحويل سوريا إلى لبنان جديد، ولذلك لا مستقبل للدور الإيراني في سوريا، والعلاقة التي بدأت مع النظام السوري منذ الثورة الإيرانية لن تستمرّ مع سوريا الجديدة.
الرسالة الثالثة إلى النظام السوري بأنّ وجوده موقت ورهن التطورات السياسية، وأنّ استمراره هو نتيجة العجز عن توفير البدائل، ولكنه لن يكون في أيّ يوم من الأيام وتحت أيّ ظرف من الظروف البديل على رأس النظام في سوريا.
الرسالة الرابعة إلى الرياض بأنّ واشنطن لن تسمح بولادة أيّ محور إقليمي على حسابها، كما لن تسمح بأن تنتهي الأزمة السورية لمصلحة طهران وتمدّدها الإقليمي، وبالتالي أيُّ حلٍّ يجب أن يأخذ في الاعتبار الدور السعودي في المنطقة.
وما بعد الضربة لن يكون كما قبلها، وهذا ليس كلاماً للاستهلاك، إنما يؤشر إلى رسالة أميركية حازمة إلى كل القوى المتدخّلة والمنخرطة في النزاع السوري أن لا حلَّ في سوريا بمعزل عن الإرادة الأميركية، وبالتالي على موسكو أن تجمّد كل مساعيها لفرض حلول على قياس تحالفاتها ومصالحها، وأنّ غضّ النظر الأميركي لا يعني في أيِّ حال من الأحوال التسليم بحلول وهندسات تؤثر على مجمل الوضع في المنطقة وتوازناته، خصوصاً أنّ الجغرافيا السورية محوَرية في أكثر من اتّجاه.
ومن الواضح أنّ واشنطن أرادت قبل الانتقال إلى الفصل الثاني المتصل بالنووي الإيراني وتعليق مشاركتها في هذا الاتفاق، وما قد ينجم عن هذه الخطوة من انعكاسات، وقفَ المخطّط الروسي في سوريا، ومنع تحقيق أيّ خطوة في أيّ اتّجاه، ما يعني أنّ الأمور في سوريا مرشحة اعتباراً من اليوم إلى التجميد التام بانتظار أن تنجلي الصورة على المستوى الإيراني.
فهناك قناعة أميركية واضحة أنه من غير المسموح عقد اتّفاق دولي مع طهران في الموضوع النووي، وأن تستغلّ طهران هذا الاتّفاق من أجل توسيع دورها الإقليمي المزعزع للاستقرار في المنطقة، فيما على أيّ اتّفاق أن يكون شاملاً ومتكاملاً، فإما تنضوي طهران تحت سقف الشرعية الدولية بشكل تام وكامل، وإما لا اتّفاقَ جزئياً معها على قاعدة أن تكون شريكة مع المجتمع الدولي في مكان، وفي مواجهة معه في مكان آخر.
وفي الوقت الذي كانت فيه كل الأنظار مركزة على منتصف الشهر المقبل لمتابعة فصول المواجهة الأميركية-الإيرانية، جاءت الحرب الاستباقية على سوريا بفعل استخدام الكيماوي لتضع كل المنطقة أمام أشهر يُفترض أن تكون حاسمة، إما بالتأسيس لإنتاج تسوية عادلة تُنهي الصراع في المنطقة، وإما استمرار الستاتيكو القائم بأشكال مختلفة ولأمد طويل.
وفي خضم كل هذا المشهد الإقليمي المتحرّك بعد جمود طويل، يدخل لبنان في الأسابيع الثلاثة الأخيرة قبل الاستحقاق الكبير في 6 أيار، وبمعزل عمّا يمكن أن يحصل في سوريا من أحداث، فإنّ لبنان سيبقى محيّداً بقرار دولي وعربي ولبناني، إلّا في حال قرّرت طهران استخدامَه لتوجيه الرسائل، أو قرّر «حزب الله» الإطاحة بالانتخابات عمداً، خصوصاً أنّ مواقف قياداته الأخيرة دلّت على قلقه بعدما أظهرت بالملموس اتّساعَ الهوّة بينه وبين بيئته.
وفي مطلق الأحوال هناك تحدٍّ كبير أمام العهد والحكومة بعدم السماح لـ»حزب الله» بتوريط لبنان بحروب لا ناقة له فيها ولا جمل، كما عدم السماح له بالتفرّد بقراراتٍ استراتيجية تخصّ مصير جميع اللبنانيين، خصوصاً أنه شريكٌ أساسي في السلطة، وهذا الاختبار مهم للغاية تمهيداً للمرحلة المقبلة، علماً أنّ «حزب الله» أصبح يدرك تماماً أنّ ما كان يصحّ سابقاً من مغامرات وتفرُّد لم يعد يصحّ اليوم، والشعب اللبناني لن يتسامح ولن يتهاون مع كل مَن يساهم في تعريض أمنه ولقمة عيشه للخطر.