لا شكّ في أنّ العالم كلّه مشدودٌ بأنظاره نحو واشنطن حيث تَسلّم الرئيس الجديد دونالد ترامب رئاسة أكبر دولة في العالم من سَلفه الرئيس باراك أوباما، وتختلف التقديرات والتحليلات حول سياسات الولايات المتحدة الأميركية الداخلية والخارجية.
ففي ما أطلقه الرئيس الجديد خلال حملته الانتخابية كثيرٌ من الوعود والالتزامات التي تبدو في كثير من الاحيان متناقضة بعضها مع بعض.
فالرئيس ترامب يتطلّع الى علاقة وثيقة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين وبموسكو، لكنّه يُبدي تبرّماً شديداً من اتفاق سَلفه النووي مع طهران التي هي حليفة موسكو.
وفي سوريا، يُشدّد ترامب على أولويّة مكافحة الإرهاب حتى لو أدّى ذلك الى التفاهم مع الرئيس السوري بشّار الأسد، ولكنّه في الوقت نفسه يَعِد بتقديم دعمٍ غير محدود إلى إسرائيل التي تُعتبَر سوريا وحلفاؤها خصمَها الاول، والتي لا تُخفي علاقتَها بدعم بعض الجماعات المسَلحة في سوريا.
لكنّ أيّ تحليل موضوعي لمرحلة حكمِ ترامب لا يستطيع إغفال الحقائق الآتية:
أولاً – إنّ القرار في واشنطن هو صنعُ مؤسّسات ومراكز قرار و»لوبيات» سياسيّة واقتصادية وأمنيّة وعسكرية، بل إنّ السلطة نفسها هي في ما سمّاه الرئيس الاميركي الأشهَر بعد الحرب العالمية الثانية الجنرال دوايت ايزنهاور بـ«المجمّع الصناعي العسكري» الذي قيل إنّه كان وراء اغتيال خلف ايزنهاور، الرئيس جون كينيدي في جريمة ما زالت مجهولة دوافعها رغم انقضاء اكثر من 53 عاماً عليها.
فرئيس الولايات المتحدة مهما كان قوياً لا يستطيع أن يتجاوز قرارات هذا «المجمع» الذي يقود ما يُسمّيه كثيرون بـ«استابليشمنت» الحاكمة في الولايات المتحدة الأميركية.
ثانياً: إنّ الرئيس الاميركي مهما كانت رغباته محكومٌ بمحدودية قدراته الشخصية، بل بمحدودية قدرات بلاده نفسِها، وقد حرص الرئيس المنتخب أن يشرح حالتَها المتردّية بالتفصيل خلال «خطاب القسَم» أمس. فلا يكفي أن تكون لدى ترامب الرغبة والإرادة وحتى العزيمة لينفّذ سياساته، بل سيجد نفسه مضطراً لمراعاة حدود قدراته وقدرات بلاده.
ثالثاً، إنّ ترامب قد وصل الى الرئاسة بما يشبه حرباً أهلية بين مناصريه ومعارضيه ممَّن ينتمون الى أعراق وإثنيات وأديان وثقافات متباينة، وهو ظهرَ بوضوح في التظاهرات المعارضة التي شهدتها الولايات المتحدة منذ انتخاب ترامب رئيساً، والتي برزت امس بقوة خلال الاحتفال بتنصيبه رئيساً.
إنّ هذه الانقسامات الأهلية داخل الولايات المتحدة الاميركية ستُضعف كثيراً من نفوذ الرئيس الجديد الذي يدرك أنّه لم ينَل نصف أصوات الاميركيين، بل إنّ نحو ثلاثة ملايين اميركي زادوا عن عدد ناخبيه وصوّتوا لمصلحة منافسته هيلاري كلينتون.
رابعاً – إنّ الادارة الاميركية تعاني حسبَ كثير من المراقبين من فقدان استراتيجيات سياسية كبرى، بل هي تتصرّف إزاء كلّ مشكلة بطريقة مختلفة عن غيرها، ولكن ما يزيد الطين بلّة مع ترامب أنّنا امام رئيس هو رجل أعمال، كلّ خبرته في عقدِ الصفقات هنا وهناك، ولا يُستبعد أن يعتمد الأسلوب نفسَه في إدارة علاقاته الداخلية والخارجية، حتى لو أدّت هذه الصفقات الى نتائج متناقضة هنا وهناك.
في ظلّ هذه الحقائق، يرى محلّلون سياسيون موضوعيون أنّ ترامب مضطرّ إلى اعتماد سياسة الانكفاء نحو الداخل لترميم الثغرات الكبرى في النظام الاميركي الداخلي المهدّد بالتفكّك على غرار ما حصل للاتحاد السوفياتي عام 1990.
وهنا لا يضيف ترامب شيئاً كثيراً الى رئيس اميركي سابق هو الرئيس مونرو الذي اعتمد عام 1823 مبدأ الانكفاء الى الداخل الاميركي مفسِحاً في المجال للأمبراطوريات الاوروبية لأن تحكمَ العالم.
ويعتقد كثيرون أنّ سياسة الانكفاء التي سيعتمدها ترامب والتي لا تُرضي كثيرين في مراكز القرار الاميركي، ستؤدي الى تمدّدِ نفوذ خصوم واشنطن الدوليّين في روسيا والصين ونفوذ حلفائها في اوروبا. لكن في الوقت نفسه لا ينبغي استبعاد لجوء الرئيس الاميركي الجديد الى مغامرات تؤدي الى حروب في أكثر من منطقة في العالم، ولكنّها حروب يَعتقد كثيرون أنّها ستكون مكلفة جداً للولايات المتحدة الأميركية.