هو استعصاء رباعي الأبعاد:
أولاً، استعصاء حل مشكلة سلاح «حزب الله» مع استعصاء اغفالها أو «جعلها» كأنها لم تكن، واستشراؤها أكثر فأكثر بسبب ذلك، وبدينامية محاربة الارهاب بالارهاب، تجاوزاً للحدود، وتدخلاً كقوة قمعية رديفة الى جانب جيش النظام في سوريا.
ثانياً، استعصاء حل معضلة قانون الانتخاب، وتاريخ هذه المشكلة هو بالحد الأدنى تاريخ الجمهورية الثانية. بلغ الاستعصاء ذروته بالاتفاق بين الفرقاء على عدم العودة الى اي قانون مستخدم سابقاً، وعدم الاتفاق على اي قانون لاحق، وبالطبع بما يعكسه الانشطار حول القانون الانتخابي من مشكلة طائفية جسيمة ولا بأس من الاعتراف في عيد البشارة بأنها مشكلة اسلامية ـ مسيحية، مع امتناع المواءمة بين المعيار العددي والمعيار التعددي، طالما لم يصر الى طرق المشكلة من بابها الرئيس: باب انمحاء العقد الاجتماعي بين اللبنانيين وقلة الاكتراث الجدي بضرورات تأمينه.
ثالثاً، استعصاء الانتخابات الرئاسية، وتمدد الشغور بشكل ما عاد يقارن بحالاته السابقة، والاستسلام لدائرة مفرغة بين مرشح قوي، قوته في ضرب الميثاق باسم الميثاقية، وبين مغبة المكابرة على المناخات الواضحة الاتجاه داخل طوائفها، والأخطر من كل هذا ان كل طرف يسوغ لأفضلية مرشحه، لكن، طالما الشغور مستفحل هكذا لا يمكن لأحد الزعم بأنه يمتلك خارطة طريق لتحقيق هذه الأفضلية واقعاً، أي لسد الشغور، وايصال مرشحه.
رابعاً، استعصاء السياسة الخارجية، فحتى في ظل الوصاية السورية والسيادة المحدودة جداً للدولة اللبنانية المقوضة حينذاك، لم تكن الديبلوماسية اللبنانية الرسمية وصلت الى هذا الدرك. والمفارقة في هذا المجال، ان من يبني على رفض الجمهورية الثانية بذريعة انها تراجع لبناني مقارنة بالجمهورية الاولى، وهو في ذلك – بالمطلق – محق، يصل به المنطق الذي يوظف فيه رفضه هذا الى نسف كل تركة السوية والتعقل في التاريخ الديبلوماسي للجمهورية الأولى، وصولاً الى ما نحن فيه اليوم من تخريب لعلاقات لبنان العربية والدولية ، وتهديد الأمن الاقتصادي لشريحة كبيرة من أبنائه، بل للبلد ككل.
هذا الاستعصاء الرباعي الأبعاد، ورغم كل التشاؤمية التي يعبر عنها اللبنانيون بشأن بعد من أبعاده، لم يؤخذ بعد بالخطورة التي يفاقمها ويراكمها يوماً بعد يوم، والمترابطة طبعاً مع ضمور وظائف الدولة جميعها، وتشمع المجتمع المدني والأطر النقابية والحياة الحزبية والصحافة وصراع الأفكار. نعيش توترات تستخدم فيها شعارات ايديولوجية كثيرة وتشهد نوبات هستيرية عديدة، انما من دون أي أثر جدي لصراع الأفكار، في مقابل انتعاشة غير معقولة لانشائيات الكيد والنكد والحقد والغم.
الاستعصاءات الأربعة لم يعد بالمقدور النظر اليها فقط من باب الاستعصاء الرئيسي وتوابعه. صحيح، مشكلة «حزب الله» تقف بشكل أساسي وراء مشكلة الشغور الرئاسي، وبشكل تام وراء مشكلة تشوه الديبلوماسية اللبنانية القاتل. لكن الاستعصاء حول القانون الانتخابي لا يختزل فيه. والأهم: التأشير الى اي جانب من جوانب المربع الاستعصائي لا يوحي بحد ذاته بفتح ثغرة. الاستعصاءات تبدو متكاتفة مع بعضها البعض، والى حد كبير السؤال الذي يطرحه الناس هو كيفية تأمين استمرار التعايش مع كل هذه النكبات في وقت واحد؟.
هذا السؤال فيه من ناحية استسلامية للقدر، وفيه من ناحية أخرى «تشكيك في التشاؤم»، بمعنى الادراك انك لا تعرف متى تتصادم هذه الاستعصاءات ببعضها البعض. في السؤال أيضاً وعي مزدوج: الى ان «الجمهورية الثانية» أعطتك عمرها، والى ان موتها السريري ليس لحظة وتنقضي، بل لعلها تستطيل كالعمر.