IMLebanon

ثعلب طرابلس

 

الإرهابي عبد الرحمن مبسوط، الذي أحال عيد طرابلس إلى حمام دم، وروع الأهالي، مجبراً إياهم على التزام بيوتهم، هلعاً من ألا يكون الوحيد الذي يفكر في الانتقام منهم بلا سبب أو مبرر، ليس مختلاً ولا مجنوناً، كما يراد أن يشاع، هو خبيث ومخطط بارع، عرف بحنكته كيف يختار اللحظة الأنسب لارتكاب جريمته بدم بارد، وضد فئة حددها مسبقاً.

لا يمكن لطرابلس أن تكون مزدحمة بالمارة والسيارات في أي يوم من السنة، كما هو حالها ليلة العيد. الجميع ينتظر هذه الأمسية الاستثنائية لينزل إلى الشارع، في احتفال شعبي، تلقائي، يتكرر وكأنما ثمة تواطؤ بين الأهالي لإحيائه على طريقتهم. يتجاوب التجار مع هذه الطقوس العتيقة ويفتحون متاجرهم، لأولئك الذين يريدون إنهاء مشترياتهم الأخيرة، حتى الفجر، وتفعل المقاهي الأمر نفسه، وكأنما انتظار العيد هو أهم من العيد نفسه.

التقط الإرهابي الذي يعرف مزاج المدينة جيداً الفكرة. بدأ عملياته في لحظة الذروة، قبل الحادية عشرة ليلاً بقليل. تجول في المنطقة الأكثر اكتظاظاً، التي يكون فيها السير شبه متوقف، وانتقال الآليات العسكرية لمطاردته بسهولة شبه مستحيل. أطلق النار على حراس مصرف لبنان، والسراي الحكومي المجاور له، من هناك بدأت الجريمة، وانتقل على دراجته النارية، الوسيلة الوحيدة التي يمكنه من خلالها تنفيذ ما يريد بسرعة قصوى، متسللاً بين السيارات المتعثرة بسبب الازدحام الشديد، قاطعاً مسافة معتبرة وصولاً إلى سنترال الميناء، حيث قتل رجلي أمن ينفذان دورية بسيارة، قبل أن ينتقل إلى دورية للجيش بالقرب من المرفأ، ويرتكب مجزرة جديدة، ثم يصل إلى حي أكثر هدوءاً ليتمترس في شقة غادرها سكانها، ويكمل إطلاق النار من شرفتها قبل أن يفجر حزامه الناسف، وقيل إنه أصيب برصاص الجيش.

في كل الأحوال، خلال أقل من ساعة كان الإرهابي قد أنهى جولته الدموية التي ارتكبها وسط الجموع الغفيرة، دون أن يتمكن منه أحد، لأنه درس ساحة معركته جيداً، واستعد لها بما يلزم من ذخائر وقنابل وتسجيلات.

قد يكون يائساً، ربما، أو حاقداً بالتأكيد، لكنه حتماً ليس مختلاً. كان بمقدوره لو أراد أن يفتح النار على آلاف المارة الذين كان يتجاوزهم بسرعة سهم، باحثاً عن هدفه الأساسي وهو قوى الأمن ورجال الجيش. لحسن الحظ أن المدنيين لم يكونوا هدفاً، وإلا لكانت الكارثة أكبر من أن تُستوعب، والمجزرة عارمة. خرج يعرف ما يريد، وأين يذهب. على الأرجح أن ثمة من كان يرصد له أماكن توقف الدوريات التي كلفت حفظ أمن الجموع المحتفلة. يصعب تصور رجل يجوب الشوارع هائماً على دراجته، باحثاً عن الدوريات التي قد يجدها أو لا يعثر عليها. ما هكذا يعمل الإرهابيون، ولا هكذا يخطط حتى أصغر المبتدئين من المجرمين. أظهرت أشرطة الفيديو أن الرجل كان يقتل عن قرب، يتحرك مرتاحاً وكأنما الوقت لا يلعب ضده. استفاد حتماً من الإحساس الفائض بالأمن في المدينة. منذ نفذت الخطة الأمنية عام 2014 نسي السكان العنف وأصوات الرصاص. رد فعلهم الأول على أصوات القنابل ورصاص الرشاش الذي كانت طلقاته تلعلع في الهواء، لم تكن هلعاً سريعاً، بل تريثاً وانتظاراً. لم يرد أحد أن يصدق بأن ثمة ما يعكر صفو تلك الليلة الأنيسة. واصل الناس مشاويرهم، وكأن شيئاً لا يحدث حتى بدأت الرسائل الصوتية لشهود العيان المفجوعين تنتشر على مجموعات «واتساب»، تخبر عن بعض مما يرون. ظن الناس، في البدء، بسبب تعدد الأماكن التي تجري فيها الأحداث أن مجموعات مسلحة تعيث فساداً. رجال الأمن أيضاً لم يكونوا على جهوزية في مدينة استكانت حتى صدقت أن الإرهاب قد انتهى وإلى الأبد.

تبين أن الخلايا النائمة موجودة. عمليات التجنيد في طرابلس بدأت منذ زمن طويل، هي من عمر «القاعدة». تخبو وتستفيق لكنها لم تدخل في حالة موت سريري. صحيح أن الناس انتفضوا هذه المرة ضد فعلة المبسوط، انتفاضة رجل واحد، يرفضون المسّ بأمنهم، لكن ثمة مخلفات يخشى ألا تكون قد دفنت كلها بعد. طرابلس تحديداً، دفعت ثمناً للإرهاب غالياً، منذ معركة تنظيم «فتح الإسلام» المتطرف عام 2007، ثم 23 جولة اقتتال بين جبل محسن وباب التبانة استمرت لما يقارب 6 أعوام. المدينة وإن كانت تعيش بسلام بعد معاناة، فإن اقتصادها لا يزال ينزف، أسواقها مدمّاة والجرح القديم لم يندمل.

يقال بأن مرتكب جرائم العيد هو «ذئب منفرد»، لكن نظرية الذئاب التي تتحرك بمفردها ينفيها الباحث الفرنسي المعروف، المتخصص بشؤون الإرهاب، جيل كيبل، نفياً قاطعاً، ويقول إن من يصدقون حكاية هؤلاء هم حتماً لا يعرفون شيئاً عن الإرهابيين وألاعيبهم، ويطلقون لمخيلتهم العنان. قد يتحرك مجرم بمبادرة فردية، لكنه آتٍ من تاريخ، وهذا هو حال إرهابي طرابلس. وهو متسلح بعقيدة وفكر راكمهما بسبب تواصله مع شبكة معينة، ولم تأتياه من فراغ، وعلى الأرجح أنه لم يقطع علاقته بكل أعضائها. ولتنفيذ الخطة لا بد من دعم لوجيستي. والمبسوط في طرابلس كان مدججاً بما يلزم من أسلحة، ومزوداً بما يحتاج من معلومات، وراسماً حاذقاً لمساره في تلك الليلة الظلماء. بهذا المعنى من الصعب التصديق أننا أمام ذئب مفترس انقضّ على فريسته ومضى. تفاصيل الجريمة المركّبة تؤكد أن المواجهة هي مع ثعلب اختار الشكل والتوقيت الدقيقين اللذين يجعلان للمقتلة التي ارتكب من الصدى والرعب ما يتجاوز حجمها وعدد ضحاياها بكثير. والثعالب من الخبث والحيلة بحيث إنها لا تعيش منفردة.