Site icon IMLebanon

“الفواييه الجامعي” من 400 دولار وطلوع

 

 

نيّال من له سرير

“لا فرع لكلية الإعلام في طرابلس”، كانت هذه أول جملة سمعتها من والدي بعد حصولي على شهادة البكالوريا وإصراري على التخصص في الصحافة. ثم أردف: “هل أنتِ مستعدة للعيش وحيدة في سكن في بيروت؟”. الإجابة على سؤاله لم تكن حاضرة، فأنا لم أختبر يوماً شعور الانفصال عنهم: أبي وأمي وإخوتي. كان تنقلي محدوداً بين المنية وطرابلس، أما بيروت فكانت سفراً. لا أعرف شيئاً عنها، ولسذاجتي كنت أظنها تبدأ من حدود كازينو لبنان وما بعده! حُلم التخصص في مهنة “البحث عن المتاعب” جرّني إلى العيش في شقق أتشاركها مع فتيات أخريات. ففي بلد ينعدم فيه الإنماء المتوازن تعليمياً ولا تتوافر شبكة مواصلات ونقل عام آمنة وسريعة، لا إمكانية للذهاب صباحاً والعودة مساءً، ولا مجال سوى لخوض المغامرات.

“فواييه سعاد” كانت المحطة الأولى. شقة صغيرة من ثلاث غرف وحمام ومطبخ مشتركة بين سبع فتيات. تشاركت غرفة مع رنا وربى. لحسن الحظ كانتا طالبتا إعلام أيضاً، وللمفارقة كانتا من الشمال، الأولى من البترون والثانية من زغرتا. قضيت أسبوعي الأول باكية. أن تتشارك غرفة نومك مع أناس غرباء في مدينة غريبة، تكاد لا تعرف عنهما شيئاً إلا إسميهما، أمر سوريالي. لا خصوصية ولا أمان. كان النهار يمضي سريعاً، بين الكلية والتحضير والدرس، أما الليل فيبقى موحشاً. يعيش الطالب في المساكن غربة حقيقية. في الأسابيع الأولى كنت أستفيق للبحث عن أمي، عن صورتها يوم زفافها المعلقة على الحائط فأجده فارغاً. أبحث عن رائحة طبخها فأعثر على نواشف وبقايا عصارة الخضار البائتة في البراد. أبحث عن ضجة إخوتي وشجارهم فأسمع ضجيج الساهرين خارجاً وأصوات محركات سياراتهم. أبحث عن الدفء فأتحسس صقيع المنزل العاري، حيث لا سجاد ولا أدوات للتدفئة ولا كهرباء في الكثير من الأحيان.

 

استثمار مربح

 

معاناة “طالبي العلم” مع السكن الجامعي أو ما يُعرف بالفواييه لا تقتصر على الشق النفسي المتمثل بانسلاخهم عن محيطهم في سنّ مبكرة نسبياً، بل تشمل أزمة مادية أيضاً. إذ يحوّل أصحاب الشقق عملية تأجير الأسرّة للطلاب إلى استثمار فائق الربح، إذ لا يقل سعر إيجار السرير الواحد عن 250 دولاراً، يُضاف إليها مصاريف أخرى، كاشتراك مولدات الكهرباء والانترنت والتنظيف وشراء مياه الشرب التي يُضطر الطلاب إلى تقاسم تكاليفها. وعليه يُنفق الطلاب على سكنهم فقط ما يُقارب الـ400 دولار شهرياً.

 

ويرتفع سعر إيجار السرير كلما كان موقع السكن أقرب إلى الجامعة، فقد يصل أحياناً إلى 300 دولار. أما كلفة استئجار “استوديو”، وهو عبارة عن مكتب صغير لا تزيد مساحته عن 30 متراً مربعاً، تعد أعلى بأضعاف، إذ قد تصل إلى حدود 500 دولار في الشهر، والسبب في ذلك بحسب صاحب أحد تلك المكاتب في منطقة الحمرا، حسن مراد، هو “ثمن الحرية (!) فإذا أراد الشخص أن يعيش مستقلاً وحراً لا يتشارك حياته مع أحد عليه أن يدفع ثمن ذلك”.

 

في مساكن أخرى قد يفرض أصحاب الشقق نظاماً صارماً على الطلاب فيتحوّل السكن إلى “سجن” كمنع الزيارات وتحديد موعد إغلاق البوابات مساءً. في هذا الإطار، توضح صاحبة فواييه جامعي في منطقة الفنار، نهلة بيطار، أن “وضع نظام صارم هو لحماية الفتيات وليس لتعقيد حياتهن، فنحن نعتبر أن مسؤولية حمايتهن تقع على عاتقنا، وكلما كان الوضع الأمني غير مستقر في البلاد نجد ضرورة للتشدد في تطبيق هذه القوانين”. أما في ما خص التكلفة المرتفعة فتشير إلى أن “السبب في ذلك يعود إلى ارتفاع الكلفة علينا أيضاً لناحية فواتير الكهرباء والمياه والصيانة”.

 

جشع أصحاب الشقق يحرم الطلاب من العيش في مساكن لائقة، إذ إن غالبية الشقق المؤجرة لهم لا تتم صيانتها، بل تُعدّل الغرف وتُحشر فيها الأسرّة لتستوعب أكبر عدد ممكن منهم. وغالباً ما تكون الفرش والأغطية مهترئة وغير لائقة للنوم. كذلك الحال بالنسبة إلى الخزائن وأدوات المطبخ وغيرها. هذا بغالبيته يُعمم على المساكن المنتشرة بالقرب من كليات الجامعة اللبنانية، لكن المشهد يتبدل مع الاقتراب نحو المساكن المنتشرة بالقرب من الجامعات الخاصة. بالرغم من أن الظن السائد بأن طلاب الجامعات الخاصة هم طلاب مقتدرون مادياً انما هو اعتقاد خاطئ، يُصرّ أصحاب “الدورمز” على تكريسه والانطلاق منه لتبرير ارتفاع إيجاراتهم وقد يصل إيجار غرفة بسرير في أحد المساكن بالقرب من الجامعة اللبنانية الأميركية LAU في جبيل ما بين 500 و1200 دولار شهرياً! ووفق جو بو غصن، صاحب المسكن الجامعي “كرونوس “، إن “الأسعار التي نعتمدها ليست مرتفعة إطلاقاً مقارنة مع الخدمات التي نُقدمها للطلاب، فضلاً عن موقعنا الجغرافي الملاصق للجامعة ما يساعدهم على توفير أموال ويريحهم من “هم” التنقل من وإلى الجامعة، فنحن نؤمن لهم رفاهية في السكن وراحة مطلقة عبر توفير حرس خاص بالمجمع السكني 24 ساعة على 24، مع أسرة مرتبة وفرش جديدة وصيانة دورية للغرف مع تصليح أي عطل من دون أن يتكبدوا هم أي مبالغ مالية إضافية، فضلاً عن تأمين الكهرباء والانترنت والمياه الساخنة وأماكن خاصة لركن السيارات”. بالنسبة إليه: “إن طلابنا هم طلاب جامعات خاصة وبالتالي لديهم قدرة شرائية مرتفعة”.

 

يبلغ عدد طلاب جامعة الـ Lau في جبيل نحو 3500 طالب، 25 في المئة منهم يحتاجون إلى مساكن جامعية، إي ما يُعادل 900 طالب، وفق بو غصن. يتوفر في المنطقة نحو 1400 مسكن، تختلف أسعارها بحسب قربها وبعدها عن الجامعة وانطلاقاً من نوع الخدمة التي تُقدمها. بحسبة سريعة يجني أصحاب المسكن ما فوق 450 ألف دولار شهرياً مقابل تأجير 900 طالب فقط.

 

فواييه “الشباب”

 

يشكو الطلاب الذكور من أزمة أيضاً، إذ يُفضل أصحاب الشقق تأجير الفتيات حتى لو اضطروا إلى اقفال شققهم، وهو ما يشكل عائقاً أمام الشباب ويجعل إيجاد غرف للإيجار عملية شاقة. بالنسبة للبعض يسبب الشباب الحرج لأصحاب البيت عندما يرفعون الموسيقى أو يستقبلون رفاقهم وخصوصاً الفتيات، فضلاً عن عدم اهتمامهم بالشقة لناحية النظافة والترتيب، فيخلّفون اضراراً وراءهم عقب مغادرتها.

 

ما يعانيه الطلاب يفتح المجال واسعاً للسؤال عن دور الدولة في ضمان حق السكن للطلاب عبر بناء مجمعات سكنية جامعية، على غرار المباني المتوافرة للطلاب في مجمّع رفيق الحريري الجامعي ـ الحدث، ( 6 بلوكات) التي تستوعب أكثر من 3000 طالب بأسعار معقولة ( 220 دولاراً)، أو على الأقل إيجاد آلية لضبط أسعار السكن الطالبي الخاص، وإبعاده عن سوق العقارات العادية، التي تشهد في الأساس إرتفاعاً غير مبرر للأسعار.