IMLebanon

«التيار الوطني الحر» والديموقراطية الستالينية

كيف يكون التزام المحازبين بالإرادة الحزبية استنسابياً؟

إن المتابع لأوضاع «التيار الوطني الحر» ومساراته، في إطار قراءة التجربة الحزبية في لبنان، لا يفاجأ بما وصل إليه من ارتباكات سياسية وتنظيمية. بل يمكن القول وبكثير من الدقة، إن الخلافات التي تعصف في بنائه التنظيمي تعبّر من جهة أولى عن عمق المأزق الذي يخترق «التيار الوطني» سياسياً وفكرياً واجتماعياً ومالياً. ومن جهة ثانية، فإن هذه الخلافات تعيد التأكيد مجدداً على مدى اهتراء الظاهرة الحزبية في لبنان، ومجافاتها الديموقراطية، وابتعادها عن فكرة الحزب بمفهومه الحديث.

وفي الحالتين فإن الإشكالات التي تواجه «التيار» تتجاوز، في بعض وجوهها، قواعده التنظيمية، وتعيد طرح الاختلالات التي تخترق الظاهرة الحزبية في لبنان، التي غدت متعارضة مع مبرر وجودها، وعاجزة عن القيام بدورها البديهي في الاجتماع السياسي في لبنان، ومتنكرة لهموم الناس وقضاياهم.

من هنا، فإن مناقشة عقوبة الفصل بحق مجموعة من المحازبين في «التيار الوطني الحر»، تأتي خارج الاصطفافات الحزبية الضيقة وتداعياتها الذاتوية. لأن الإجراءات التنظيمية بحق بعض الأعضاء تلقي الضوء الساطع على أبرز الأعطاب التي تستقر في حياة الحزب الداخلية، وتكشف جدية الارتباكات التي تعرقل العمل التنظيمي، وتّوضح بدقة طبيعة العلاقات التسلطية التي تحكم عمل القيادة ونظرتها لذاتها ولقواعد الحزب ومناصريه.

ضمن هذا التوصيف تأتي عقوبة الفصل (مهما كان عدد المعاقبين) وكأنها إجراء «روتيني» تلجأ إليه القيادة في «التيار الوطني»، أو في غيره من الأحزاب، اليوم وغداً وبعد غد، تحت ذرائع واهية، وأسباب معلبة، ومحاكمات صورية معروفة النتائج مسبقاً، على طريقة ما كان يجري في بعض الأنظمة الديكتاتورية وأحزابها «نعدمه اليوم، ونحاكمه غداً».

غياب الثقافة الديموقراطية

إن الأزمة في «التيار الوطني»، كما في العديد من الأحزاب اللبنانية الأخرى، تتلخص في بعض وجوهها بغياب الثقافة الديموقراطية، وباستعصاء ممارستها، وبرفض الآخر والتنكر للتنوع وغياب التعددية في حياة الحزب الداخلية. وبالتالي فإن ما كشفته تجربة «التيار الوطني الحر» باختصار شديد هو أن مسألة الديموقراطية في التجربة الحزبية اللبنانية، تبدو ملتبسة ومثيرة للجدل والنقاش، ويتم تطبيقها، من حيث المبدأ، انتقائيا وبما يخدم «القيادة» ومصالحها. وهذا ما حّول الديموقراطية إلى قضية إشكالية بامتياز تتلخص في التناقض القائم بين تضخيم الخطاب الحزبي بأهمية الديموقراطية وضرورتها المجتمعية من جهة، وضحالة حضورها وهامشية تجسيداتها في العمارة الحزبية من جهة اخرى.

لهذه الوضعية الإشكالية أسبابها المتداخلة والمتعددة، لعل من أبرزها عاملين: العامل الأول يعود إلى أن الديموقراطية عملياً لم تكن المحرك الأساس لقيام الأحزاب في بلادنا، الأمر الذي جعلها ملحقة بالحزب وغير متجذرة في بنائه التنظيمي. العامل الثاني يعود الى طبيعة البنية المجتمعية وعصبياتها الأولية، الأمر الذي جعل الديموقراطية تبدو كأنها معطى «خارجي» له مخاطره وتداعياته غير الآمنة. وفي الحالتين بقيت الديموقراطية في الاجتماع السياسي، كما في الأحزاب السياسية، شكلية، إلى حد بعيد، أو كما يقول الدكتور سليم الحص: «لدينا الكثير من الحرية والقليل من الديموقراطية».

لذلك يعمد «التيار» للتفلت من هذه الوضعية الإشكالية، كما غيره من الأحزاب السياسية، الى اعتبار الديموقراطية صفة يطلقها الحزب على نفسه. لكن الديموقراطية ليست «صفة» مجردة يحلو لهذا الحزب أن يسِم نفسه بها. بل هي مجموعة من الإجراءات العملانية التي تبين بالواقع الملموس ديموقراطية هذا الحزب، أو عدم ديموقراطيته. وبالتالي فإن تضخيم الخطاب الذاتوي لا يجعل الحزب ديموقراطياً مهما تعالى الضجيج وارتفع الصوت عالياً، ومهما كانت النيات صادقة وطيبة. لأن «الحزب الديموقراطي» هو الذي يعتمد في أطره التنظيمية مجموعة من الإجراءات التي توفر لأعضائه كافة فرصاً متساوية للمشاركة، ورسم السياسات السياسية والحزبية (مع أهمية اعتماد «التيار» فكرة اختيار نوابه من قواعده، غير أن المحازبين يعرفون جيداً أن نتائجها غير ملزمة، وتتطلب إجراءات لاحقة تحتاج الى المزيد من التدقيق، وقد تكون هذه العملية في لحظة سياسية للغطية على ما يجري داخل التيار). فهل يتم اعتماد هذا التصور؟ وكيف؟ من هنا يمكن القول إن حضور المعارضة والاعتراف بها وشرعنة وجودها، من أبرز ركائز «الحزب الديموقراطي»، وأهم مؤشرات «توطين» الديموقراطية في هذا الحزب أو ذاك. وبالتالي فإن تغييب المعارضة أو محاصرتها، وإلغاء حقها في التعبير عن مواقفها وآرائها، يحوّل الحزب الى نموذج تقليدي وسلطة أبوية، ويعطل التفاعل ويهمش قيمة العضو الحزبي ويلغي حقوقه، أو يحول الحزب الى حزب شمولي ـ توتاليتاري وهذا ليس في وارد «التيار الوطني» وإمكاناته.

فصل المحازبين

إن الأحزاب السياسية في لبنان لا تقر عملياً بوجود الآخر المختلف في صفوفها. كما أن النظرة للآخر (مجتمعياً)، خارج أطر الحزب تبدو نظرة سلبية وغير سوية وتتسم بالكثير من الرفض والعدائية. ففي الحالة الأولى (الحزبية) تكون عقوبة «الفصل» إجراءً «عادياً»، وفي الحالة الثانية (المجتمعية) تكون الانقسامات والشرذمة والحروب الأهلية هي السائدة، وهذا ما يؤكد أهمية الحزب، نظرياً، ودوره الأساس في تكريسه الديموقراطية في صفوفه لتداعياتها المجتمعية وانعكاساتها الايجابية.

ضمن هذا الإطار يمكن قراءة عقوبة الفصل لمجموعة من المحازبين في «التيار الوطني الحر» التي تأتي كإجراء «طبيعي» «روتيني» «عادي» تتخذه القيادة لإثبات «هيبتها» وإخفاء إخفاقاتها، وفرض سلطتها، وحماية مصالحها. وهذا ما يذكرنا، ولو شكليا، بالمنطق الستاليني الذي ساد في العمل الحزبي خلال مراحل سابقة، حيث القائد، أو الأمين العام، أو الرئيس يحتضن المعرفة، وقراراته ملزمة من دون نقاش، وسلطته فوق سلطات الحزب وهيئاته، كونه «الأحرص» على الحزب، و «الأنقى» من غيره، و «الأصدق» في سلوكياته، و «الأعلم» بالسياسة وخفاياها… الأمر الذي يحوّل الحزب الى «ملكية» خاصة، للرئيس حق التصرف بها كيفما يشاء، ويجعل من المحازبين «جنوداً» في ثكنة عسكرية، ويتعامل مع قواعده على انهم أقرب للأتباع والمطيعين.

من هنا فإن من يخالف، أو ينتقد، أو يعترض، يغدو «عدواً» مشكوكاً بولائه، وضعيفاً في انتمائه، و «دخيلاً» أو «عميلاً» ينفذ أجندة خارجية، وفي الحالات كافة فإن المعترض «يعطل» عمل الحزب، ويعرقل مسيرته.

إن عقوبات الفصل بحق بعض المحازبين في «التيار الوطني الحر» تأتي ضمن هذا السياق، الأمر الذي يؤكد أنه حزب تقليدي بامتياز، لم يخرج عن السائد والمألوف في التجربة الحزبية اللبنانية من جهة، ويؤكد، من جهة أخرى، ما ذهب إليه البعض إلى أن بعض الأحزاب تحولت الى «مؤسسات عمل خاصة»، والمحازبين فيها الى «أجراء» مياومين من دون أي ضمانات. وهذا يعمم اليأس والقنوط، ويجعل الظاهرة الحزبية، بعامة، إحدى العلل التي تفتك في الجسم اللبناني، وتسمم حياته. فهل هناك من أمل ما في تجاوز هذه الوضعية؟