على الرغم من التطورات المتسارعة، على الصعيدين الإقليمي والدولي، لا سيما مع ظهور الإنفراجات من العاصمة النمساوية فيينا، لا يبدو أن هناك أي تغيير في المواقف المحلية، حيث يُصر كل فريق على مواقفه المعلنة، بانتظار وصول رياح التحولات إلى العاصمة اللبنانية بيروت، التي تحتاج من حيث المبدأ العبور عبر محطات إقليمية معروفة، أبرزها المملكة العربية السعودية.
على مدى الأشهر السابقة، اعتقد الكثيرون أن نجاح المفاوضات النووية، بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والدول الكبرى، يعني معالجة مختلف الملفات العالقة على مستوى المنطقة، من سوريا إلى العراق إلى اليمن إلى لبنان، متجاهلين كل التأكيدات، الصادرة عن المرشد الأعلى للثورة الإسلامية السيد علي خامنئي، بأن بلاده لا تفاوض إلا على ملفها النووي، مع العلم أنه بأغلب خطاباته، التي رافقت المفاوضات، كان يدعو الإيرانيين إلى الإستعداد لمواصلة المواجهة مع «الشيطان الأكبر»، أي الولايات المتحدة الأميركية، في حين كانت المؤشرات من واشنطن توحي بأنها مستمرة في مشروعها الخاص بمنطقة الشرق الأوسط.
في هذا السياق، تكشف مصادر سياسية مطلعة، أن الإتفاق النووي، لا يعني إنتهاء المواجهة بين طهران وواشنطن على أكثر من جبهة، بل على العكس من ذلك من الممكن القول أن حماوتها قد ترتفع عن السابق، خصوصاً أن حلفاء واشنطن قد يعمدون الى تعويض خسارتهم عبر إفتعال الأزمات في أكثر من مكان، وتذكر بأن العديد من البلدان الإقليمية لا تزال، حتى الساعة، غير مرحبة بالإتفاق التاريخي، الذي من المفترض أن يكون نقطة مفصلية على صعيد العلاقة بين الدولتين، وبالتالي هي ستعمل بكل طاقاتها من أجل عرقلته من جديد، بهدف تأمين مصالحها القائمة أساساً على تخويف شعوبها من هاجس «الإيرانوفوبيا».
وفي حين يرى البعض أن الأوضاع على الساحتين العراقية والسورية هي الأصعب، في المرحلة المقبلة، لناحية إمكانية البحث عن حلول، تلفت هذه المصادر إلى أن من المفترض أن تكون «محاربة الإرهاب»، هي العنوان الأساسي لبناء مسار جديد، على صعيد العلاقة بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية، خصوصاً أن الجانبين يعتبران أن هذا الخطر يهدد أمنهما القومي، لكنها تجزم بأن هذا الأمر سيحتاج إلى وقت طويل كي يتبلور، لا سيما أن الأمور لا يمكن أن تحصل بـ«كبسة زر»، وتشدد على أن المؤشرات لا توحي بأكثر من تعاون على الصعد السياسية، حيث أن المؤسسات الأمنية في البلدين لديها الكثير من المحاذير التي تمنعها من التعاون في وقت قريب.
بعيداً عن الغرق في تفاصيل الأوضاع الإقليمية والدولية، تبدو الساحة اللبنانية في مرحلة إنتظار قد تطول وقد تقصر، بحسب الأولويات العالمية من جهة، وبحسب قدرة اللبنانيين على إبتكار الحلول التي قد تساعد في هذا المجال من جهة ثانية، لكن من المؤكد أنها ستكون ورقة من الأوراق التي ستسعى أغلب القوى إلى إستغلالها، والضغط من خلالها بغية تحسين شروطها التفاوضية.
وتشير مصادر سياسية لبنانية، إلى أن هناك شبه توافق أميركي إيراني على الحفاظ على الإستقرار في البلاد، ظهر في أكثر من مرحلة سابقة من خلال المساهمة في تأمين توافق الحد الأدنى بين القوى السياسية المختلفة، إلا أنها توضح أن مفتاح الحل يبقى في العاصمة السعودية الرياض، التي تملك القدرة على عرقلة أي مسعى عبر «مونتها» على قوى الرابع عشر من آذار، خصوصاً تيار المستقبل، وهي قد تجد مصلحة في عدم التسليم بمتطلبات المرحلة السياسية الجديدة، وبالتالي عدم المساعدة في الوصول إلى حلول على الصعيد اللبناني، لا سيما أن لديها أولويات أخرى متمثلة بالأوضاع الداخلية والأحداث اليمنية التي تشكل، من وجهة نظرها، تهديداً لأمنها القومي.
بالنسبة إلى هذه المصادر، يبدو واضحاً أن الجانب السعودي، الذي كان يعتمد بشكل كامل على الولايات المتحدة في سياساته الخارجية، لا يملك أي خطة مستقبلية يستطيع من خلالها تحديد مواقفه من ملفات المنطقة، الأمر الذي ينعكس على رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، الذي لم يبادر في خطابه الأخير، خلال الإفطار الرمضاني، إلى طرح أي مبادرة للخروج من الأزمة الراهنة، منتظراً ما ستؤول إليه الأوضاع على الساحتين الدولية والإقليمية، بعكس كلامه عن أن ربط الساحة اللبنانية بالتطورات الخارجية غير مجد، على الرغم من أن الجميع يدرك أن الكرة في ملعبه، كونه الجهة القادرة على تقديم التنازلات التي ترضي التيار الوطني الحر، الذي يرفع عنوان إستعادة الحقوق المسيحية.
وترى هذه المصادر أن المشكلة الأساسية تكمن في أن تيار المستقبل، منذ إتفاق الطائف، يستحوذ على إمتيازات مسيحية حان الوقت كي يعيدها إلى أصحابها، لكنه في المقابل يرفض هذا الأمر بشكل مطلق، بسبب عدم قدرته على ذلك محلياً، نتيجة المنافسة على الساحة السنية من قبل أطراف أخرى ستتهمه بالتفريط بإمتيازات الطائفة التي يمثلها، وعدم إمتلاكه حرية القرار بسبب إرتباطه بمحور إقليمي ليس مستعداً بعد لتقديم أي تنازل.
في المقابل، يبدو التيار الوطني الحر مرتاحاً إلى خياراته الحالية، فنتائج إستطلاعات الرأي تؤكد إرتفاع شعبيته على الساحة المسيحية بشكل كبير، وهو يحظى بدعم مطلق من حليفه الإستراتيجي حزب الله، ولا يمكنه التراجع قيد أنملة عن المطالب التي ينادي فيها، خصوصاً أن هناك شبه إجماع على الإعتراف بأنها حقوق مقدسة، وتؤكد المصادر السياسية أن التيار مستمر في معركته حتى النهاية في حال عدم التجاوب معه في الأيام المقبلة، وهو يهدف بشكل أساسي إلى الضغط على الحريري وسلام، وإلى توجيه رسائل إلى المجتمع الدولي بأن هناك ضرورة لمعالجة الأزمة اللبنانية.
في المحصلة، تجزم هذه المصادر بأن أي جهة محلية لا تملك إمكانية المبادرة في هذه المرحلة، إلا أنها تشير إلى أن العودة إلى الوراء أمر مستحيل، حيث من المستبعد الخروج من الأزمة قبل تلبية الحد الأدنى من مطالب تكتل التغيير والإصلاح.