بعد «كارثة» 11 أيلول، سأل الأميركيون عن «رامبو» و«سوبرمان» و«باتمان»، وأين اختفوا في تلك اللحظة. وحده رجل الإطفاء يومها تصدّى للمهمة وكان السبيل للنجاة. لم تنفع كل أساطير أميركا وأوهامها الجديدة والقديمة في منع المصير المحتوم. واليوم، أين هم مخترعو أدوية الصلع والعجز الجنسي ومستحضرات التجميل وماذا يفعلون؟ وماذا يقول دونالد ترامب للعاملين في البيت الأبيض عن تفوّق أميركا الهائل؟ وهل تنفع حاملات الطائرات وتكنولوجيا السلاح النووي يا رفيق دونالد؟
النخبة البريطانية تفكر في التضحية بـ«الضعفاء» لاكتساب مناعة جماعية. هي طريقة تعبير النظام، هناك، عن فشل نظامه الصحي والغذائي، وعن إنفاقه الوهمي في أسواق المال والعقارات. والشمال الأوروبي الذي ترفّع عن هموم العالم باسم التفوّق، يعود مرغماً إلى الملعب مع الآخرين. مذيعة فرنسية تسأل بغضب مكبوت: هل صحيح أن «كورونا» لا يصيب السود والملوّنين. أما أهل الجنوب، الذين حاصرهم الأغنياء بالموت الدائم قتلاً أو مرضاً أو جوعاً، فها هم يقيمون حفلات الصخب والضحك على الرجل الأبيض الذي سيستحقّ صفة إضافية: الأغنى في المقبرة!
الصين، الغابة البشرية اللامحدودة، تدفع ثمن دخولها سباق التسليع في مواجهة عالم الأغنياء. كل فائضها اليوم لا ينفع إلا في إعادة بناء منظومة حياة تواجه الوباء العظيم. وروسيا وغرب أوروبا مع توابعهما من دول الاستعمار القديم، يقفان أمام المرآة من دون إضافات، ويسألان: ماذا لو انشغلنا بأنفسنا بدل الركض خلف رضى الرجل القوي!
أما عندنا، في هذه البلاد البالية، فلا حاجة إلى أسئلة إضافية. ها هم أركاننا يتنافسون على مناصب جديدة، من قاض أو نائب حاكم أو مدير عام. رعاة النظام، من الرؤساء وقادة الطوائف، يقاتلون بضراوة لحماية صناديق الهدر من دون أن يرفّ لهم جفن إزاء حاجة مستشفيات الدولة إلى أجهزة تنفّس. رياض سلامة يبحث مع سليم صفير في كيفية تكديس أرباح الأثرياء في خزائن بعيدة. ربما على طريقة اسكوبار الذي مات ومعه خارطة مخابئ الثروة في أرضه. وسمير جعجع يريد مقاضاة حسان دياب. جيد أنه تواضع هذه المرة واكتفى بالمقاضاة فحسب، لن يعامله كرشيد كرامي وداني شمعون وطوني فرنجية. وسكان كوكب «ام تي في» منشغلون في العثور على طوابق سرية تعالج مرضى غير لبنانيين في الضاحية الجنوبية. أما تجار الأدوية، فلديهم حواسيب تجيد رفع أسعار كل شيء. ولا أحد من كل هؤلاء، يجيبنا عن سؤال حول حاله أو حال أفراد عائلته إن زارهم «كورونا».
رعاة النظام يقاتلون بضراوة لحماية صناديق الهدر من دون أن يرفّ لهم جفن إزاء حاجة مستشفيات الدولة إلى أجهزة تنفّس
لكن، هل يتغيّر البشر؟
إنه العجز، يختصر حال البشر اليوم. فجأة، تختفي الفروقات. لا يبقى معنى لكل جهود الأشرار في تصنيف البشر طبقياً وعرقياً وجهوياً. ولا معنى حتى لأحلامهم الكبيرة بأوطان خالية من المتطفّلين من بقية البشر. لا زلازل ولا فيضانات تقي هؤلاء شرّ الهواء المسموم. لا مظلة ولا كبسولة تنفعان في منعهم عن الخطر. الكل يواجه السؤال نفسه: هل آن الأوان؟
أبدع سينمائيون ورواة في طرح الأسئلة الوجودية في لحظة العجز. ضحك مفاجئ على «أحلام» صارت اليوم بلا معنى. صراخ أو صمت الذي يقف منتظراً الموت الحتمي. الناس محتجزون، وباب يُفتح كل لحظة وينادى على فلان بأن أجله قد حان. وكأننا أمام قدرية مستعادة لا خيارات لردّ الدعوة إلا بالانتحار. ولا قدرة على الفرار. المؤمنون يلوذون بالإله بحثاً عن «سترة» تقيهم شر الانتقام. والملحدون يعودون مرغمين إلى مراجعة أنفسهم حول الحياة الأخرى.
«كورونا»، أو اختبار الهشاشة العالمية، لا يقيم وزناً لكل نقاشات البشر. يهتم فقط بإظهار ضعفهم الكامل. يهتم فقط بملاعبتهم عن طريقة قبلة أو مصافحة… لا فرق. يهتم، فقط، بدفعهم إلى الجنون بحثاً عن مجهول يقيهم شرّه المجهول – المعلوم. «كورونا» قد يرتاح بعد حين. لكنه سيعود مطمئناً إلى أن النفس البشرية أمّارة بالسوء.
ها نحن، اليوم، نصلي لكي يكون حتفنا قليل الصخب. وحالنا اليوم أننا أمام محاولة أخيرة في حلّ أحجية هذه الحياة المعقّدة، مثل عجائز يقتربون من خط النهاية، كحال من وصفهم كاواباتا في رائعته «الجميلات النائمات». ما هو متاح لنا هو – فقط – وهم حياة غير قابلة للتفاعل. ها نحن نمضي ليالينا الأخيرة في جوار هذه الدنيا (الجميلة النائمة). ونطلق العنان لذاكرتنا وخوفنا وبقية خيال لا يفيد في إيقاظ الحياة من حولنا… و«كورونا» يهزّنا كل لحظة صارخاً بنا: أنتم اللاشيء أنتم مثلي، أنتم الهشاشة الكاملة!