Site icon IMLebanon

الخوف اللبناني من التفكّر خارج الموروث حتّم على فرنسا التدخّل

 

البحث عن نظام جديد يوالف بين قوننة دور مفروض وإستعادة ثانٍ وتكريس ثالث!

 

يُفترض أن إشتداد الأزمة السياسية، وهي باتت إستعصاء كيانياً بفعل التخريب المقصود الذي أصاب النظام تدرجا منذ أن حطت الجمهورية الثانية رحالها مع بداية التسعينات، قد شكّل دافعا للنخبة اللبنانية، او بعضها على أقل تقدير، على التفكّر من خارج النصّ، أو من خارج منطقة الجزاء وهو التعبير المعرّب المعادل للإستعارة الأميركية الشهيرة Thinking out of the box.

 

ويُفترض أن الإستعصاء الكياني، غير المستجد لبنانيا لكنه بلغ ذروته في العقد الأخير، قد جعل تلك النخبة، أو بعضها، مقتنعة بأن أمره لا يعود فقط وحصرا الى أزمات موضعية من مثل تعثّر أهل السلطة في إنتاج أدوات للحكم الرشيد. هؤلاء هم ذاتهم أرباب الدولة العميقة وأمراء الحرب الغابرة التي تطرق راهنا أبوابنا. وقد ثبت أن تراكم التعثر والعثرات، معطوفا على التخريب المتعمّد لكل ما يمتّ بصلة الى الدولة المؤسسية، والحوكمة السليمة أبرز ركائزها، هو نتاج إستعصاء ضارب عميقا في طبيعة النظام الطوائفي الإئتلافيّ أي الفدراليّ المقنّع، حتى لو أنكر أمراء الحرب السابقون هذا الواقع ورذلوا ما أرسوه من فدرالية مشوَّهة نتيجة ممارسات التقاسم القبليّ، وهو النظام الفدرالي (الإتحادي) الطوائفي المشوّه ذاته الذي مكّنهم من مراكمة مكتسبات هائلة سياسية ومالية موّلوا بواسطتها ذواتهم على إمتداد الثلاثين عاما من عمر جمهورية الطائف الهوجاء.

 

الأليزيه يدعم الحاجة إلى تنظيم مبتكر للخلافات في المرحلة الانتقالية

 

لكن أياً من الإفتراضين السابقين، ولا حتى كليهما مجتمعَين، شكّل حافزا لإطلاق دينامية على مستوى جماعة الطائف وغالبية النخب، تبحث عن حلول تنتج في الوقت عينه دولة قوية وآلية منتظمة لإدارة التنوّع اللبناني، يمكن بيسر إستقراؤها في ذاكرات جماعية كثيرة صفّت ماضيها يوم قررت صفاء نواياها وتصالحها وتصارحها (جنوب أفريقيا نموذج رائد). كما يمكن إقتباسها من تجارب دول خاضت غمار الحروب الطائفية والمذهبية (الدمويّات البروتستانتية – الكاثوليكية التي مزّقت أوروبا وسُميّت حروبا مقدسة، مجازر شعوب يوغوسلافيا)، وإنتهت يوم ينعت لدى شعوبها ونخبها أفكار حكم تحفظ التنوّع وتفكك شيفرات الخلافات- التي بدت وظلت قرونا مستعصية- لتتحول تلك الأفكار، تدرّجا، دساتير وتفاهمات ومواثيق نظّمت الخلاف والإختلاف، وأرست قواعد مؤسسية لدول حضارية إتحادية (سويسرا وبلجيكا) تدير بسلاسة التناقضات البنيوية الإثنية والعرقية والمذهبية واللغوية.

 

غياب الحافز اللبناني على التفكّر من خارج منطقة الجزاء عائد، على الأرجح، الى الخوف من أي جديد ثقافي – فكري يخالف التقليد ويناقض أو ينقض السائد من مفاهيم لم تكن في الأصل سوية. وكلما طُرحت للنقاش فكرة رُجمت حتى قبل أن تأخد مداها، تفحّصا وتخمّراً. هكذا هي الحال مع الكثير من الأفكار التي شُنّعت وجُرّمت لمجرّد أنها تتحدى الموروث. وتجريم الفكرة هو أحد أكثر مجازر حرية الرأي بشاعة وقسوة!

 

وليس غريبا أو مستغربا، والحال هذه، أن تبادر الدول، كمثل فرنسا، الى وضع يدها على النقاش المحرّم لبنانيا، بل مصادرته جهارا، بحثا عن صيغة جديدة للكيان ترسي ما فشلت 70 عاما من الممارسة في إرسائه من تنظيم دستوري – دولتي للإختلاف والرؤى، على قاعدة دولة علمانية -مركّبة لما لا- قادرة على ترسيم حدود إفتراضي بين المكونات، كمثل دولة مركزية ترعى السياستين الدفاعية والخارجية، تماما كما ترعى بالحرص نفسه تفرّع كل السياسات الأخرى المالية والتنموية والتربوية والإجتماعية والاقتصادية، تحقيقا للامركزية تعيد إنتاج نظام أكثر عدالة وفعالية، وأقل توليدا للأزمات والحروب.

 

ظهّرت حوارات سان كلو الفرنسية، قبل أعوام، الحاجة الماسة الى تنظيم مبتكر للخلافات اللبنانية المتأصّلة بين طالب دور يقوننه دستورا بعدما نجح في فرضه عرفا (ويُقال عنوةً)، وبين باحث عن إستعادة دور غابر خسره نتيجة ما يراه تآمرا محليا – دوليا، وبين مستميت في الدفاع عن مكتسبات كرّسها له التآمر ذاته. سُمي كل ذلك، تباعا:

 

أ- مثالثة للإستعاضة عن دور مفقود دستوريا منذ ثنائية بشارة الخوري ورياض الصلح، وعُبّر عنها جهارا في أكثر من مناسبة وواقعة، كنتيجة لتغيّر موازين قوى أنتجت في العام 1990 نظام الطائف الي نُظر إليه على أنه تكريس لغلبة لبنانية على أخرى. وتَفترض تلك الرغبة في الإستعاضة قوننة ومن ثمّ «دسترة» الدور المفروض سياسيا وعسكريا.

 

ب- مارونية سياسية مستعادة، هي في الحقيقة محاولة لتصحيح الخلل في الممارسة على مستوى الحكم نتيجة تكريس الإدارة الدولية ومن ثم السورية للبنان، حكم ثنائية سنية – شيعية يتحكّم بها منذ العام 2005 هاجس الفتنة، وهو هاجس تسبّب بالإنهيار الراهن ودمّر كل مقومات الدولة، بذريعة تفادي الإقتتال المذهبي.

 

ج- مناصفة إحتيالية شكلية، فرضها الطائف ومارسها عنوة حُكامه، وهُدد المسيحيون بنسفها، على هشاشتها، تحت طائلة العودة الى العدّ والعددية، كلّما رفعوا الصوت ألما أو إجتهادا بحثا عن المناصفة الأصيلة، لا الشعاراتية، في البرلمان والحكومة، وفي كل إدارات الدولة وأدواتها!