بقدرة فرنسية التقى زعماء الطوائف ورؤساء الأحزاب إلى طاولة مشتركة يرأسها ايمانويل ماكرون، الرئيس الأربعيني المحنك والسلس الذي طغى حضوره على حضور المسؤولين اللبنانيين. ليس في القول مبالغة وهو لا يندرج في باب التبجيل، لكن ماكرون ظهر على الساحة السياسية كمنقذ في اللحظة الأخيرة، وبدا ملمّاً بتفاصيل مشاكل هذا البلد والعقبات التي تعترض الحلول. وأياً كانت براعة من تولى التحضير لهذه الزيارة وتحديد روزنامة عمل الزائر، يبقى الاعتراف واجباً بأن ماكرون عرف كيف يقارب حساسية الواقع اللبناني. فرض على المسؤولين الاستماع إليه على الرغم من لغته الحادة والتي لم تخل من تهديد ووعيد.
لكن اللافت أن الضيف الكبير لم يخترع البارود، والورقة الاصلاحية التي وزعتها السفارة الفرنسية على رؤساء الاحزاب لنقاشها، هي ذاتها البنود التي سبق للحكومة أن أقرّتها وغرقت في متاهات النكد السياسي. يبدو أن رهبة مجلس الوزراء لا توازي رهبة قصر الصنوبر، أو أن سياسيي لبنان لم يصدّقوا بعد أنهم يحتفلون بمئوية وطنهم، ويتصرّفون كقصّار.
ما شهدناه خلال الساعات الماضية يستجرّ العطف على حكومة حسان دياب التي باءت محاولتها بالفشل لغياب المواكبة الدولية لها، وتُرك دياب وحده حتى من قبل حلفائه. كما يظهر حقيقة مرّة، وهي ان اللبنانيين ملزمون بتنفيذ أمور اختلفوا على حلّها بالتراضي. الفرق بين الحكومتين ان ضابط الايقاع يملك قراراً دولياً ويفرض عقوبات، وينصح بعمل اصلاحات مالية تؤمن عودة البلد للنهوض مجدداً، ثم تجري العودة الى مناقشة أمور سياسية.
لماذا يعجز لبنان عن إدارة شؤونه بنفسه؟ سؤال بسيط تجد بعض الجهات إجابته في “الدستور المنبثق من إتفاق الطائف، والذي جعل الحكم خارج الدستور وخارج الحدود”. في كل مرة تتأزم داخل السلطة يتم اللجوء الى طرف خارجي ليكون هو الحكم وضابط الإيقاع. في الماضي كان السوري جاهزاً، واليوم جاء الفرنسي بقيادة ماكرون شخصياً.
وإن كان تشبيه وصاية “قصر الصنوبر” بوصاية “عنجر” يعتبرها وليد جنبلاط سطحية، لرفضه مقارنة سوريا الأسد مع فرنسا الديموقراطية… لكن في واقع الأمر أنّ الفرنسي يلعب في هذه المرحلة دور “الوصاية” على لبنان مع فارق ان ماكرون يبدو اكثر سلاسة وذكاء في تمرير الرسائل وضبط الاوضاع وليس صدامياً، فقدّم نفسه حاكماً يضبط الحياة السياسية في لبنان من خارج الدستور وخارج البلاد. يمارس سياسة العصا والجزرة، العصا نستعملها في حال الاخفاق، والجزرة تمثل شبكة الخلاص اذا امتثلتم للقرار الدولي. أصيبت السيادة هنا بمقتل، ورحنا نشحذ من صندوق النقد الذي هو عبارة عن مجموعة دول قادرة على استجرار انتداب ووصاية. والحل يكون بتعديل الدستور وتعزيز المناعة وتسهيل آلية الحكم والا ستبقى الحاجة لحاكم من خارج الحدود سواء كان اسمه حافظ الاسد أو بشار الاسد او ايمانويل ماكرون او من سيخلفه.
يرى بعض المراقبين أن مشكلة لبنان في الدستور “الذي يحتاج دائماً الى ضابط ايقاع وحكم من خارج البلاد والدستور معاً لأن نظام الطائف هو نظام الفيتوات المتبادلة وحق التعددية الطائفية”. باعتقاد أصحاب هذا الرأي ان “انتقاماً من المارونية السياسية مورس دستورياً، كانت نتيجته بأن سمح لبعض النافذين داخل الطوائف بعرقلة كل منهم للآخر وعطل امكانية الحكم”.
يقضي التقليد اللبناني بأن تتبع كل طائفة دولة محددة تستمد قوة حضورها من خلالها. بعد الانسحاب السوري العام 2005 لعب السفيران الفرنسي والأميركي دور ضابط الايقاع، وفي العام 2007- 2008 فشل فريق 14 آذار في دفع الأمور قدماً “نحو استقلال القرار اللبناني الداخلي ما اضطرنا الى أن نكون امام ضابط ايقاع سوري – إيراني برعاية سعودية في العام 2008”. تسوية لم تصمد أبعد من العام 2010، “حيث كنا امام واقع غير طبيعي، واجه الحريري في السعودية. ومنذ ذلك التاريخ ولغاية اليوم تعرض لبنان لسلسلة أزمات جوهرها دستوري سياسي ومضمونها أزمات اقتصادية وما الى هنالك”. أما الحلّ فهو “الذهاب الى تعديلات دستورية تجعل الحاكم قوياً باسم الدستور اياً كان هذا الحاكم”.
مطالب مزمنة
في المقابل، تبرز وجهة نظر ثانية تقول إن اعتبار الازمة دستورية “مجرد تبسيط من دون الحديث عن ارتباطاتنا الخارجية، وكون لبنان صندوق بريد في الساحة الاقليمية المتفجرة، اضف اليها ثقافة السياسيين القائمة على تغليب مصالح الغير على مصلحة البلد”. يلفت أصحاب هذا الرأي إلى أن “مضمون الإصلاحات يحكى عنه من سنين ولكن الجديد ان هناك من شعر بنفسه مضغوطاً وصار مضطراً للسير بالورقة الاصلاحية ولم يعد بامكانه التأجيل”. هي “ثقافة التذاكي في إرجاء الملفات، وهذه سياسة غير مستجدة وتعود الى الاربعينات، ويستحيل احصاء المواضيع المرجأة على اهميتها. لم نفهم مثلاً لماذا أرجئت الانتخابات البلدية العام 1967، ولماذا نردّد دائماً بأن استحقاقات معينة داهمتنا فنرجئ البت بها بحجة ضيق الوقت؟ ولماذا لم تطبق المادة 95 من الدستور التي تنص على الغاء الطائفية السياسية. نحن ارباب التأجيل والتذاكي حتى وصلنا الى حائط مسدود”.
الموجع هنا ان المجتمع الدولي يطلب الإصلاحات التي يطالب بها المجتمع اللبناني، ويتم التوافق بشأنها لتكون تقريباً برنامج عمل الحكومة. المعوّلون على الحراك يقرأون التطورات على أنها نتيجة لما شهده لبنان منذ 17 تشرين وصولاً لانفجار المرفأ “الاندفاعة الفرنسية بنيت على حقيقة صارت مثبتة لدى الكثيرين من ان لبنان آيل الى الزوال فعلاً، انما زوال منظومة الدولة لتلبية الحد الأدنى من مقومات عيش مواطنيها والآتي اصعب بالنظر الى اعلان حاكم المصرف المركزي الاتجاه نحو رفع الدعم ما يعني تدني قيمة رواتب الموظفين والعاملين وتراجع القدرة الشرائية”.
أما لماذا انصاع المسؤولون الى توصية الفرنسيين فلأنه “لم يعد في البلد خيرات يمكن سرقتها، وليس أمامهم خيار آخر، لقد شعروا بأنهم وصلوا الى حائط مسدود في مناوراتهم منذ 17 تشرين فرضخوا للواقع”. هكذا، لم يعد أمام المسؤولين هامش للمناورة، خصوصاً أن التهديد جدي بانهيار البلد في حال لم يجر تطبيق ما يقترحه الفرنسيون “وحينذاك سيتركوننا ونصبح بلا منقذ خصوصاً مع عودة الاميركيين للحديث عن قانون ماغنيتسكي وتلويح الفرنسيين بعقوبات. وهذا كله مرتبط بالحكومة التي ستشكل والتي تتلخص مهمتها بالتفاوض مع صندوق النقد ومعالجة ملف الكهرباء وإصلاح القضاء لمكافحة الفساد”.
هي أزمة نظام عمرها عقود من الزمن، تفاقمت مع الطائف والتعديلات التي أضيفت عليه في التسعينات. ما المطلوب إزاء كل ذلك؟ يدعو البعض إلى “انتقال سياسي وليس دستورياً، اي انتقال الى سلطة تأخذ على عاتقها البحث عن النظام”. هذا إذا توفرت سلطة مقتنعة بانها بلغت سن الرشد.