لقاءات لودريان مع مَن اختصروا بأنفسهم «قوى التغيير».. مَن هَندسها؟
ثمّة ما يشبه الإصرار عند الفرنسيين على مقاربة الأزمة اللبنانية بأخطاء وضبابيّات وتناقضات والتباسات غير مفهومة وغير مبرّرة. لم تكن زيارة وزير الخارجية الفرنسية جان ايف لودريان إلى بيروت (7 و8 أيار)، وهي الرابعة له إلى لبنان في ظل الأزمة الراهنة، سواء في شقها الرسمي أو لقائه مع من سمّاهم قوى التغيير البديلة، مخيّبة للآمال والتوقعات والبديهيات فحسب، بل كرّست غياب التأثير الفرنسي من خلال فشل المبادرة الفرنسيّة بعد تفريغها من قبل المنظومة السلطوية اللبنانية.
ماكرون وتجريب السمّ اللبناني
بُعيد جريمة تفجير مرفأ بيروت حضر الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون متضامناً، معانقاً، ومواسياً.. أطلق الكثير من الوعود التي بدا أنها أقرب إلى الخيال النوستالجي منه إلى مواقف دولة كبرى.. وكان أن أطلق مبادرته الشهيرة التي تضمنت بنوداً مهمة جداً تحاكي مطالب وتطلعات الشعب اللبناني المنكوب، وباستطاعتها، في حال تنفيذها، أن تشكّل خارطة طريق لوضع الانهيار اللبناني على سكّة التعافي، وفوق ذلك نالت إعجاب وتقدير اللبنانيين جميعاً، وبدت وكأنها تعيد إحياء الدور الفرنسي الفاعل في المنطقة. ثم جاء ماكرون ثانية في شهر أيلول ليكرر المواقف والتمنيات، وهو التقى في قصر الصنوبر القيادات السياسية، المفلسة شعبياً ووطنياً وسياسياً تحت ضغط الشعب المحبط والغاضب من فشل إدارة الشأن اللبناني، ومن عُزلة لبنان الذي بات جائعاً ومفلساً، ومن صدمة جريمة التفجير التي بدا واضحاً حينها أنها أُدخلت في متاهات عرقلة التحقيق، وكان لقاء ماكرون مع الطبقة السياسيّة بمثابة الأوكسجين الذي مكّنهم من إعادة إنتاج حضورهم بغطاء فرنسي.. ولولا كورونا لجاء ماكرون ثالثةً، وَلكرّرَ نفسَ الكلام والوعود، مع المزيد من العناق والصور التذكاريّة والزيارات والخطب العاطفية.
بدا ماكرون في إلقائه حبل النجاة إلى سياسيي لبنان والتعويل على «وطنيتهم»، كمن يُجرّب السمّ على سبيل التجربة، وللمفارقة، خلت مبادرته من الأظافر والأنياب وأدوات الإلزام، وكان ذلك كافياً لتسلّل هذه القوى وهي الخبيرة في تفخيخ المبادرات، وبيع الأكاذيب، وشراء الوقت إليها، وتحويلها بجدارة من مبادرة إنقاذية إلى محطة جديدة لخيبة أمل كثيرين ممن عوّلوا على ماكرون ووزير خارجيته.. بل إلى إعلان سقوط للمقاربة الفرنسية في لبنان.
زيارة لودريان والحربقة اللبنانية
هل يحق لباريس، ومعها عواصم الدول الفاعلة والمؤثّرة، أن تبدو وكأنها غير مدركة لأفاعيل رموز منظومة المافيا والفساد، وخطورتهم على الحياة الوطنية ورسالة لبنان ودوره وشعبه؟ هل يستقيم أن تبدي اندهاشها من انعدام حسّ المسؤولية لدى المنظمة المتحكّمة والمتورّطة بمآسي لبنان وشعبه؟
هل يعقل أن يأتي لودريان ليسمع من رئيس الجمهورية حرصه وتمسكه بـ«حكومة تحظى بثقة مجلس النواب»!؟ فيما بلده يرزح في قعر جهنم والفوضى والانهيار. ثم لماذا لم يأت الوزير الفرنسي على ذكر السلاح الذي يستلب السيادة، ويُشرعِن التهريب، ويغطي الفساد، ويخنق الاقتصاد، ويُرهب اللبنانيين؟
هل كان للأمور في لبنان أن تصل إلى هذا الدَرك من الفضائحيّة والانحلال والسقوط لولا سكوت باريس، والمجتمع الدولي طبعاً، عن ممارسات منظومة امتهنت النهبَ والفساد، وتخطي الدستور، وتحطيم المؤسسات؟
بدا أن لودريان أراد من لقائه مجموعات مدنية القول بأن فرنسا تراهن على قوى بديلة من خارج القوى المتحكّمة لتحقيق خرق في المنظومة السياسية من خلال الانتخابات.. لكن، ومجدداً، كيف يطلب الوزير من «القوى البديلة» أن تتحضّر للانتخابات النيابيّة، وأن تتمسّك بمطلب إجرائها في مواعيدها الدستوريّة، وهو يعلم أن في لبنان الانتخابات ونتائجها تقاس سلفاً بشكل القانون الذي تجرى على أساسه؟ وأن جزءاً مهماً من الكارثة القائمة إنما نتجت عن انتخابات العام 2018 التي جرت على أساس قانون مسخ؟ وهل تستطيع باريس ضمان نزاهة الاستحقاق في حال حصوله وفي ظل السلاح وسيطرة المنظومة على مؤسسات الدولة العميقة؟
فوق ذلك، ما تردّد عن أن ناشطة لبنانية حزبيّة وقريبة من بعض المجموعات، متزوجة من نائب فرنسي، هي التي تولت «هندسة» اختيار ممثلي مجموعات الحراك الشعبي الذين التقاهم الوزير لودريان مع رئيس حزبها.. وهذا، إن صحّ والمعطيات تؤكده، إدخال جديد للدور الفرنسي في زواريب لبنانيّة شديدة الضيق، ولا تليق بتاريخ ومكانة الديبلوماسيّة الفرنسيّة، أو الدور المرتجى منها، لأنها تعكس تذاكياً غير مقبول أمام هول الانهيار اللبناني، وتكشف أن الشفافية قيمة ما تزال غائبة عن سلوكيات عاملين على خط الثورة في لبنان لم يخرجوا بعد من لوثة السلطة.
لكن الأمور لم تنته
من مجمل الملاحظات، تبدو فرنسا – ماكرون حريصة على مساعدة إيران وأذرعها، أكثر من كونها بصدد مساعدة لبنان، وبهذا المعنى فإن التعويل بإنقاذ لبنان يفترض أن يتوجه إلى جهود أوروبية ودولية وعربية أخرى، أقلّ فلكلوريّة وأكثر واقعية، ومن ضمنه جهود الفاتيكان والاتحاد الأوروبي، وبالطبع الاتجاه الأميركي الداعم للبنان في إدارة بادين.
لكن، في المقابل ثمة من يرى من متابعي علاقة أوروبا بلبنان أن «الأخطاء الفرنسيّة غير مقصودة»، ويلفت إلى أن «الأخطاء التي ارتكبت على مدى الأشهر العشرة الأخيرة ناجمة عن تسليم فرنسا سياستها الخارجية وملف لبنان بحساسياته ودقته لوشوشات بعض المتسللين إلى كواليس الكي دورسيه»، ويؤكد أنه «رغم ذلك فإن الدبلوماسية العريقة قادرة على النقد الذاتي وتصحيح المسار».
فرنسا، بحسب هذا الرأي، تبقى دولة كبرى من دول القرار، وقادرة على تصحيح أخطائها، ولها في تاريخ لبنان وحاضره الكثير، وكثير من اللبنانيين يتطلعون إلى الحركة الدبلوماسية الرائدة، والحاضنة التي يمثلها الاتحاد الأوروبي والفاتيكان والدول العربية الفاهمة لعمق الأزمة اللبنانية، وأسبابها، ومكامن خطرها على لبنان وشعبه، وعلى الأمن الإقليمي والدولي.
في الطريق، لا أحد يطلب أو ينتظر من الخارج حلّ الأزمة اللبنانية بكل تفاصيل وتعقيداتها، والشعب اللبناني وقواه الحيّة يدركون ذلك، ويعرفون مسؤولياتهم جيداً… لكن المطلوب، وهو حتماً بمقدور القوى العالمية، المساعدة بكسر الحلقة المفرغة الممسكة بخناق لبنان، إما من خلال الضغط بعصا العقوبات (التي أثبتت فعاليتها) بوجع الفاسدين والمعطلين وخاطفي السيادة، أو من خلال تحريك ملفات الفساد المالي في الخارج، وسرقة المساعدات، والنهب المنظّم للمال العام وأموال المودعين.. من الضروري والملحّ اصطفاف الموقف الفرنسي والأوروبي إلى جانب الموقف الأميركي الذي ينظر إلى الطبقة السياسية اللبنانيّة بوصفها منظومة، فاشلة، فاسدة، مشبوهة، متورّطة، ويعمل على هذا الأساس، لأنه يتلاقى مع تطلعات الشعب اللبناني ومطالبه بدولة سيّدة ومؤسسات نظيفة.. وهنا بداية الطريق.
يمكن هنا الإشارة بإيجابية إلى كلام لودريان عن «إجراءات تقييدية» ضد شخصيات لبنانيّة وإشارته إلى «التفكير مع الشركاء الأوروبيين بأدوات ضغط متاحة»، وبالتالي التعويل على ذلك حال تحققه… فهل تراجع باريس مقاربتها للمسألة اللبنانيّة؟