لم تعد فرنسا الأم الحنون بالنسبة للبنانيين عموما والمسيحيين خصوصا، لقد أصبحت علاقاتها قوية إلى حد التحالف مع إيران، والذين يتابعون تطور العلاقات بين البلدين يعرفون ان ما يربطهما هو المصالح المتبادلة بينهما، وبالتالي خسر لبنان والمسيحيون خصوصا سندا قويا كانوا يعتمدون عليه، فأمهم الحنون لم تعد كذلك.
ففرنسا منذ أن تلقّت صفعة قوية بسبب إلغاء صفقة الغواصات ذات الدفع النووي مع أوستراليا والتي قدّرت بحوالي خمسين مليار دولار عام 2021 وهي تبحث عن «زبون» آخر للتعويض عن هذه الخسارة، خاصة وان فرنسا كانت قد اتفقت مع أوستراليا على هذه الغواصات منذ العام 2015، أي أن فرنسا قد أمضت خمس سنوات وهي تعمل لتنفيذ هذه الصفقة لتفاجأ بإلغائها. وجاء الإلغاء إثر الإعلان عن معاهدة أمنية ثلاثية حملت اسم «AUKUS» (وهو اختصار لأسماء الدول الثلاث أوستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية) خلال قمة للرئيس الأميركي جو بايدن ورئيسي الوزراء البريطاني بوريس جونسون والأسترالي سكوت موريسون.
كان جان إيف لودريان في حينها وزيرا للخارجية الفرنسية حيث قال عن هذا الأمر: «إنها حقا طعنة في الظهر. أقمنا علاقة مبنية على الثقة مع أوستراليا. وهذه الثقة تعرّضت للخيانة»، ولم يكتفِ بلوم أوستراليا بل توجه باللوم إلى الولايات المتحدة التي كانت وراء إلغاء هذه الصفقة مضيفا «هذا القرار الأحادي والمفاجئ وغير المتوقع يشبه كثيرا ما كان يفعله ترامب».
يومها وبناء لطلب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قررت فرنسا استدعاء سفيريها في الولايات المتحدة وأوستراليا للتشاور، احتجاجا على توقيع اتفاقية «أوكوس» الأمنية.
هذا التصرف غير مسبوق بين الدول الحليفة، وقد برّره وزير الخارجية الفرنسي، آنذاك، إن «الخطورة الاستثنائية» للوضع تبرّر «القرار الاستثنائي».
علما أن أوستراليا أعلنت عن تسوية مع فرنسا حيث دفعت مبلغ 555 مليون يورو لصالح مجموعة نافال الفرنسية كتعويض عن إلغاء الصفقة.
ورغم التبريرات التي قدّمها الرئيس الأميركي جو بايدن للرئيس الفرنسي بان الاتفاقية الثلاثية مع أوستراليا وبريطانيا تهدف لمواجهة الصين ولكن فرنسا شعرت بالإهانة، ويومها قيل أن فرنسا لن تسكت عن هذه الطعنة.
ومنذ ذلك التاريخ وفرنسا تحاول ربط صداقة مع إيران، ربما تنجح في إقناعها في شراء هذه الغواصات. وقد تجلّى هذا التوافق في المواقف منذ أن بدأت اجتماعات اللجنة الخماسية، حيث واجهت فرنسا مع اللجنة الخماسية من أجل لبنان العديد من الاختلاف في المواقف، وعن تجاوز فرنسا حدود التفويض الممنوح لها، واعتبرت أن حزب الله هو الجهة الأقوى لبنانيا، وعلى المجموعة الخماسية التعاون مع الحزب للوصول إلى حل لأزمة لبنان. دون أن ننسى مصالحها الاستثمارية في التنقيب عن النفط عبر (TOTAL ENERGIE) في حقل قانا حيث نفوذ حزب الله، إضافة الى التخطيط مستقبلا لإعادة إعمار لبنان.
ولم يفاجأ متتبعو السياسة الفرنسية بالموقف الفرنسي المؤيد لإيران وحليفها حزب الله في لبنان، وإن كانت المفاجأة والصدمة كانت في المواقف المسيحية التي كانت تعتمد على الدعم الفرنسي لها، لتجد أنّ الفرنسيين يسيرون في نفس توجه حزب الله في الانتخابات الرئاسية، عبر دعمها للوزير السابق سليمان فرنجية لأنه مرشح حزب الله المقرب من إيران، ورغم إبلاغ الفرنسيين بأنّ القاعدة المسيحية غير موافقة على هذا التأييد، أصرّ الفرنسيون هلى تمسّكهم بموقفهم.
هذا الموقف أزعج البطريرك الماروني وشعر أن الفرنسيين لا يعيرون أهمية للوجود المسيحي في لبنان ، فنقل الشكوى إلى الدوائر الفاتيكانية التي بادرت إلى التواصل مع المراجع الفرنسية من أجل إبلاغها موقفها من المستجدات اللبنانية والطلب إليها استقبال البطريرك الماروني على أعلى مستوى للاستماع إليه. وقبل سفره إلى فرنسا طلبت الفاتيكان من البطريرك أن يجعل طريقه إلى فرنسا عبر الفاتيكان التي استقبلته وأمّنت له الأجواء الفرنسية المريحة، بعد أن طالبته بالانفتاح على الأفرقاء الآخرين، أمّا بالنسبة للموقف الفرنسي من الانتخابات الرئاسية فقد أبلغ الكرسي الرسولي فرنسا تحفّظه على توجهات باريس حيال الإستحقاق الرئاسي، مؤكدا لها أنه مع استمرار تأييده في المحافظة على قنوات اتصال مفتوحة مع الفرقاء المسلمين، إلّا أنه يشترط في الوقت نفسه أن لا يتم السير بأي خيار يُشكّل تحدّياً مباشراً للفرقاء المسيحيين، الذين لم يُخفوا بأكثريتهم معارضتهم لحال الفرض بالاكراه لهذا المرشح أو ذاك.
هذا هو الموقف المسيحي بشكل عام سواء في البطريركية المارونية أو في الفاتيكان، والذي يتلخّص بدعوة فرنسا بعدم السير بأي خيار يشكّل تحدّيا للمسيحيين اللبنانيين.
الموقف الفرنسي عند زيارة البطريرك لفرنسا كانت دعوة البطريرك الراعي للتواصل مع الثنائي الشيعي للتفاهم معهم، كونهم من مكونات الوطن. وبالفعل، وعند عودته من فرنسا أرسل البطريرك الراعي وفدا كنسيا للاجتماع بالرئيس نبيه بري وكذلك وفدا آخر للاجتماع بممثلين عن حزب الله، ولكن كلا الوفدين لم يفلحا في إقناع الثنائي الشيعي بالتراجع عن ترشيح فرنجية، وفرنسا هي الأخرى لم تتراجع عن تأييدها له.
ماذا عن الموقف الفرنسي من المساعي الدولية لحل الأزمة اللبنانية وانتخاب رئيس للجمهورية؟ وتحديدا اللجنة الخماسية المكونة من قطر والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا ومصر والمملكة العربية السعودية و التي اجتمعت مرتين، في فرنسا وقطر؟
الموفد الفرنسي عندما أتى إلى لبنان كان يتكلم بتكليف من الرئيس الفرنسي ماكرون وبتفويض من اللجنة الخماسية، حاملا معه بيانها، ولكن، وكما يظهر من مضمون رسالة الأسئلة التي أرسلها الأسبوع الماضي إلى بعض النواب ورؤساء الكتل النيابية، طالبا إليهم فيها الرد على سؤالين قبل نهاية شهر آب الجاري، فهو يشكّل تجاهلا لتوجه اللجنة الخماسية، وما تضمنه بيانها، فهو لم يطلب رأيهم ببيان اللجنة الخماسية بل ليطرح أسئلة حول مواصفات الرئيس العتيد والمشاريع المستقبلية كبرنامج له، وفاته ان بيان اللجنة الخماسية قد تكلم عن مضمون السؤالين وأن المطلوب هو معرفة رأيهم بما تضمنه البيان قبل أن يدعوهم لاجتماعات تشاورية.
فعند عودته إلى لبنان واجتماعه بالنواب وعقد اجتماعات تشاورية معهم، هل سيطلب من رئيس المجلس الدعوة لعقد جلسات متتالية لاختيار الرئيس؟ وإذا قبل الرئيس بري تلبية طلبه فمن هم المرشحون؟
لا بد من التأكيد ان البحث في الصيغ والمشاريع ومواصفات الرئيس لن تؤدي إلى أي نتيجة. لأنه بغياب التوافق على أسم أو أسماء يمكن ترشيحها ستذهب جهود السيد لودريان سدى، وهو الذي كلف من اللجنة الخماسية كما كلف من قبل الرئيس الفرنسي.
يمكن القول السيد لودريان تصرّف كموفد للرئيس الفرنسي وليس كممثل للجنة الخماسية، حيث كشف بوضوح أنّ الجانب الفرنسي يتصرف بما يرضي حزب الله وإيران ولا يعير اهتماما لبيان اللجنة الخماسية، وهذا ما أغضب فريق المعارضة والبطريركية المارونية على السواء. فجاءت عظة البطريرك الراعي ليوم الأحد صارخة اعتراضا على ما تضمنته الرسالة الفرنسية وانتقادا مباشرا لها، حيث قال: «في هذه الأيام تسمعونهم يتكلمون على سؤال وجواب ولقاء وحوار. فالحوار الحقيقي والفاعل هو التصويت في جلسة انتخابية دستورية ديموقراطية. والمرشحون موجودون ومعروفون».
فإذا كان كل اهتمام فرنسا القيام بالدور الذي يرضي إيران وبالتالي ما يرضي الثنائي الشيعي، تكون فرنسا اختارت مغادرة اللجنة الخماسية، بحثا عن مصالحها في إيران ولبنان، فلم يعد هناك دور في رسالة لودريان لبيان اللجنة الخماسية. ففرنسا ما زالت تحت تأثير صدمة إلغاء صفقة الغواصات النووية مع أوستراليا.
وإيران التي تحسن استغلال الظروف وتوجهها لصالحها، والتي يسعدها أن ترى فرنسا إلى جانبها، ولكنها لم تعرض على فرنسا أي صفقة، وفي قرارة نفسها تفضّل الاتفاق مع دولة من الدول الأقطاب مثل روسيا أو الصين، وحتى أميركا ولكن فرنسا ليست من هذه الأقطاب، فهل تعود فرنسا من إيران، بعد التعب، بخفّي حنين، وتكتفي بما حققته من مصالح في لبنان؟
وهل يؤدّي التحذير الفرنسي بأنّ «محاولة مندوبها لجمع النواب هي الأخيرة» إلى إقناع من يعارض سياستها؟