باريس ـ
لم يعرف المسلمون في أوروبا الحديثة أي مشكلات حقيقية، بل نموا فيها بهدوء واحتلوا مواقع متقدمة، ووصلت نسبهم في بعض الدول، الى مستوى مؤثر في اتخاذ القرارات(عشرة في المئة في فرنسا)، لكن الأمور بدأت تختلف في السنوات الأخيرة، بحيث وضع التطرف الإرهابي المسلمين في الواجهة، في ظل سعي جاد- وهو في غالبه سياسي ناجم عن تطرف مقابل- الى المزج بين التطرف، من جهة، وبين الإسلام، من جهة أخرى.
وأضحى الإسلام، في الآونة الأخيرة، هو الموضوع الأكثر حماوة في النقاش الإعلامي والإجتماعي والديني والسياسي في فرنسا، التي شهدت في أقل من سنة صدور 3 كتب أخذت حيّزا كبيرا من الاهتمام:
الكتاب الأول، «خديجة» لماريك هالتر. يروي قصة الزوجة الأولى مع النبي وهو يتبلّغ رسالته. هذا الكتاب حظي باهتمام كبير، ولكنه لم يأخذ أبعادا إعلامية جدلية، لأنه كتب بلغة رصينة وهادئة، من دون أي إيحاءات سياسية أو تمييزية.
الكتاب الثاني، «الإنتحار الفرنسي»، لإريك زيمور. إحتل هذا الكتاب النقاشات، لأنه يدعو الى ترحيل المسلمين، وإلا فإن حربا أهلية ستشهدها فرنسا. بالنسبة لكاتبه لا يوجد إسلام متطرف وإسلام معتدل، بل يوجد إسلام واحد، والتطرف جزء لا يتجزّأ من الشريعة الإسلامية، على حد ما عبّر، مرارا وتكرارا. وقد احتل هذا الكتاب مرتبة متقدمة جدا في المبيعات، بحيث لم يسبق لكتاب من صنفه أن حظي بهذا العدد الكبير من المهتمين.
الكتاب الثالث،» الخضوع» لميشال ويليك، ونشر في المكتبات في اليوم نفسه لوقوع المجزرة ضد هيئة تحرير مجلة «شارلي إيبدو«. تتخيّل الرواية وصول حزب إسلامي الى السلطة في العام 2022 بالإتفاق مع اليمين الوسط والحزب الإشتراكي، بحيث يعمد الى تغيير البنية التعليمية والإجتماعية في فرنسا. النقاش الإعلامي الحاد الذي أثاره الكتاب قبل صدوره، يتوقف هنا، لكن الكتاب يذهب بعيدا، في مقارنة المسيحية بالإسلام، وينتهي الى أن الإسلام دين حياة ودين سياسة، ويعتنق بطل القصة الإسلام، وهو أستاذ جامعي يعيش وحيدا، تخلت عنه حبيبته اليهودية التي لجأت الى إسرائيل مع أهلها، وعجزت الكاثوليكية التي حاول العودة إليها، من أن تسد شعورا يتولد لديه بسخافة الحياة، فرأى أن الإسلام قادر على إحياء مجد الإمبراطورية الرومانية وأن يأخذ المدى المهم الذي سبق وأخذته المسيحية الأوروبية في عصرها الذهبي أي في القرون الوسطى، بحيث بدا الجزء الاخير من الكتاب والذي يتقدمه قول للإمام الخميني «إذا لم يكن الإسلام سياسيا، فهو لا شيء»، بمثابة الإنذار للمسيحية الأوروبية، بأنها إذا لم تتدارك نفسها إجتماعياً واقتصادياً وسياسياً ومالياً وعسكرياً، فهي ستنتهي لمصلحة الإسلام، كما بدا بمثابة خارطة طريق للإسلام، بحيث يمكنه أن يستفيد من هذه الثغرة الكنسية للسيطرة على أوروبا، ولكن بالعقل والحياة، وليس بالجنون والقتل.
وتأتي سلوكيات المتطرفين إلى أي جهة مذهبية انتموا- لتضع هذه الكتب والكثير من المقالات المشابهة في مقدمة النقاشات.
وتأسيسا على إثارة عامل الخوف الوجودي من المستقبل القريب، فإن فكرة نشوب «حرب حضارات« في أوروبا، بدأت تتقدم على ما عداها، إنطلاقا من أن الإسلام المتطرف سيواجهه تطرف مسيحي، والتطرفان سيجذبان الى صفوفهما المنقسمين طائفيا.
ووفق ما هو وارد في كتاب «الخضوع»- وهو يأخذ عنوانه من فكرة إسلامية يروّج لها تتمحور حول أن المرأة تخضع للرجل والرجل يخضع لله- فإن هناك تحالفا متطرفا مسيحيا يمتد في كل أوروبا يستعجل وقوع المواجهة المسلحة، إنطلاقا من ميزان القوى السائد حاليا، وقد وضعت خطة كاملة لذلك، يحتاج استكمالها إلى بضع سنوات.
وقد أدى ارتكاب المجزرة في مجلة «شارلي ايبدو« وما تسببت به من غضب شعبي عارم، إلى انقسام فرنسا- وتاليا أوروبا- الى مشهدين، الأول رسمي- سياسي وديني- بحيث كان التشديد، بلغة موحدة، على وجوب إرساء الوحدة الوطنية إنطلاقا من عدم المزج بين الإرهاب والإسلام، فيما المشهد الثاني كان مشهدا شعبيا، بحيث بدا الإنقسام واضحا بين مؤيدين للجريمة المريعة، ظهروا في الصالونات كما على مواقع التواصل الاجتماعي، وبين مازجي الإسلام بالإرهاب، وهم أيضا ظهروا في الأمكنة نفسها.
وأدى اتخاذ مجموعة من اليهود في باريس كرهائن وقتل بعض منهم، بعد التأكيد أن الشرطية البلدية التي قتلت في العاصمة الفرنسية، حمت بجسدها مدرسة يهودية من مجزرة كانت مخططة، إلى «زيادة الطين بلّة«.
واستنادا الى هذه العوامل، فإن فرنسا ما بعد هجوم الأيام الثلاثة، لن تكون لا سياسيا ولا إجتماعيا، على ما كانت عليه قبلها، ويعتقد كثير من المحللين، أنه من شأن دخول التطرف الإسلامي على الخط، أن يُعزز وجود اليمين الفرنسي المتطرف في المشهد الشعبي، وهو وجود نما في السنة الأخيرة الى مستويات قياسية غير مسبوقة.
وهذا يعني أن الإسلام الأوروبي عموما والفرنسي خصوصا، سوف يدخل في إشكاليات كبيرة، لا يدرك أحد مداه ولا نتائجه، في حال تُركت الأمور على ما هي عليه حاليا، وبقي المستوى الرسمي في مكان والمستوى الشعبي في مكان آخر.
وفيما يبدو بارزا أن الجمهورية الإسلامية في إيران دون غيرها من الدول أوجدت أعذارا للجريمة المريعة التي استهدفت المجلة التي هاجمت كل الأديان، وليس الإسلام انطلاقا من سلوكيات متطرفيه – فحسب، فإن الهجوم الأدبي، تركّز على المملكة العربية السعودية، على الرغم من أنها دانت كليا ومن دون أي تبرير المجزرة المريعة.
وهذا يعني عمليا أن الترجمة الخاطئة أو المزوّرة للإرهاب تضرب عميقا مسألتين يفترض أن تشكلا الحل الوقائي لـ»صدام الحضارات»: الإعتدال الإسلامي الديني والإعتدال الإسلامي السياسي.
ويعرف دارسو التنظيمات الإرهابية التي تنسب نفسها الى الإسلام أن هذين الإعتدالين بالتحديد هما هدفان ذهبيان من الأهداف التي تضعها التنظيمات الإرهابية في قائمتها السوداء.
وتأسيسا على هذه المعطيات، فإن ورشة عمل كبيرة تفرض نفسها على جدول المعتدلين، لتجنيب أنفسهم نتائج حروب يعمل المتطرفون على نشوبها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
– قناعة إسلامية بأن الإعتدال بحاجة الى جبهة عالمية تتخطى الأطر الوطنية، بحيث يواجه بشكل شامل الظاهرة العابرة للوطنية عند التنظيمات المتطرفة، ومن شأن ذلك أن يعزّز الإعتدال الأوروبي- وهو لما يزل قويا حتى الآن- إنطلاقا من نظرية ثبتت دقتها، تشير الى أن التطرف يخدم التطرف المقابل، والعكس صحيح، أي أن الإعتدال يخدم الإعتدال.
– إدراك الإعتدال الإسلامي السياسي أنه بحاجة الى حملة عالمية من أجل تأكيد خلافه الجذري مع التطرف الإرهابي، وعدم الإكتفاء بوجود قناعة على مستوى القيادات السياسية بذلك، لأن القيادات السياسية في المجتمعات التي تعتمد النظام الإنتخابي، تضعف كلياً أمام القناعات الشعبية المبنية على انطباعات خاطئة، لأنه كما هو مسلّم به ، أن الإنطباع أقوى من الحقيقة.
– إدراك الإعتدال الديني أن البيانات النخبوية التي تصدر بمطوّلات، لا تصل، إلى حيث يجب أن تصل، وتاليا، فإن الإكتفاء بهذه الإنجازات، مهما كانت مهمة، لن تقنع أحدا بوجوب أن تكون هذه الإجتهادات بديلة عن المواجهة.
إن الحاجة الى إجراءات سريعة تحد من التطرف، لا تحتمل أي نوع من أنواع التلكؤ.
ثمة في أوروبا من يروّج أن المد الإسلامي وصل الى بواتييه، مجددا، في إشارة رمزية الى البلدة الفرنسية التي تحولت الى جبهة إسلامية- مسيحية في القرن الثامن ميلادي وأسست لاحقا لانطلاق الحروب الصليبية، وتاليا لا بد من تنظيم المواجهة منذ الآن.
في ظل العلمنة الأوروبية، نما المسلمون بعقيدتهم في أوروبا، وفي ظل نمو التطرف الإرهابي حاليا، هم بدأوا يتعرضون لحملة يقودها من يسعون، ليلا ونهارا، لأن يبقى صوت الإرهاب…مدوّيا!