استقبل الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند الرئيس اللبناني السابق ميشال سليمان في الخامس والعشرين من أيلول الماضي. وفي الثاني والعشرين من الشهر نفسه، استقبل وزير الخارجية لوران فابيوس رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي. ولا يُخفى أن فرنسا تُعدّ في مقدمة «القوى الكبرى» المطالبة بانتخاب رئيس للجمهورية في لبنان، بعد 18 شهراً من الشغور في الكرسي الأول، متجاهلة أن مجلس النواب، الذي سبق ومدّد لنفسه مرتين، هو في نظر اللبنانيين فاقد للشرعية ومقصّر بشكل فاضح عن أداء مهامه التشريعية الأساسية ولَعبِ دور الرقيب على السلطة التنفيذية.
في حقيقة الأمر، لا يُعدّ سجل الرجلين الأفضل في لبنان. فسليمان انتُخب في العام 2008 رئيساً عندما كان قائداً للجيش، الأمر الذي شكّل مخالفة دستورية صريحة، أما ميقاتي ففضيحة جمعه لثروة بلغت مليارات اليورو عبر شبكة خلوية غير قانونية بين لبنان وسوريا، لا تزال ماثلة في الأذهان. ولم يلعب أي منهما بحكم موقعه خلال فترة ولايته آنذاك دوراً إيجابياً في اقتراح مشروع موازنة، مع العلم بأن لبنان الذي يعمل من دون موازنة عامة منذ عشر سنوات، ولا حسابات مالية صحيحة منذ عشرين عاماً، يخضع لنظام زبائنية وفساد مُمَؤسس. بل أكثر من ذلك، فبين العامين 2012 و2014، سمح النظام بدخول أكثر من مليون ومئتي ألف سوري، بما يفوق الثلاثين في المئة من عدد سكان لبنان المقيمين، في حين أن أوروبا تكافح لاستيعاب موجة نزوح بالكاد تشكل 0.5 في المئة من نسبة سكانها.
بعد سقوط الوهم بشأن عودة السوريين الجماعية والسريعة، وكذلك بشأن دور المساعدات الإنسانية في تخفيف وطأة وجودهم، أدّت هذه الهجرة الجماعية إلى قلب التوازنات الهشة في الاقتصاد والمجتمع اللبنانيين. فالمحادثات الجارية ترمي إلى إثقال كاهل لبنان، الغارق في دين عام يتخطّى الـ160 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، بحزمة إضافية من الديون بحجة دعمه في تخطي هذه المحنة. ولكن ما الذي تنشده الحكومة الفرنسية في لبنان، وأي مشروع مجتمعي تقترحه لهذا الشرق القريب، أي مشروع لمنطقة البحر المتوسط، لأوروبا، ولفرنسا نفسها؟ أن تدفعه لاستيعاب الحدّ الأقصى من اللاجئين السوريين لتجنب انتقالهم إلى أوروبا، وذلك عوضاً عما كان يمكن أن تنجزه في التدخل لإيجاد مخرج سياسي للحرب الأهلية المشتعلة في سوريا؟ أن تُنجز صفقات سلاح للجيش اللبناني، كما حصل مع الجيش المصري، تموّلها ممالك النفط في الخليج، التي تستفيد جيوشها من هذه الصفقات أيضاً؟ أو أن تدعم قادة الميليشيات السابقين، ورجال الأعمال من أصحاب المليارات الخليجيين، الذين تحوّلوا إلى زعماء قبائل وجماعات طائفية، وقادة عسكريين، لا يحظون بالاحترام الدولي؟
ترخي القلاقل الاجتماعية والأصوليات الدينية الظلامية وحالات الحصار (الطوارئ) والمحاصصات الزبائنية في المجتمعات المشرقية بثقلها على الأرض الأوروبية، حيث تترجم ارتفاعاً في منسوب الطائفية ورهاب الأجانب لديها. في المقابل، ما هو الاهتمام الذي توليه الحكومات الفرنسية والأوروبية للحراك الشعبي الحالي في لبنان، وعلى نطاق أوسع في العراق، ضد كل أشكال القمع التي يواجهها؟ في الواقع، يستند المشروع الفرنسي، في الدفاع عن مصالحه التجارية، على تحالفه مع الأنظمة الرجعية والفاسدة متجاهلاً الاحتجاجات الشعبية ضد هذه الأنظمة.
بناء على ما تقدم، حين يستطيع هذا النظام إنجاز صفقات عقود مثمرة، لا يعود يأبه للمخاطر السياسية الكبرى. فما الذي تأخذه فرنسا ومعها الدول الأوروبية بالاعتبار لاستكمال مشروعها؟ وهل لديها واحد حقاً؟ لفترات طويلة، جرى اعتبار حالات انعدام الاستقرار الاقتصادية والمالية والاجتماعية بين الدول، وفي داخل كل دولة منها، على أنها غير ذات جدوى أو جرت معاملتها وفق تدابير مرحلية. ولكن منذ عقدين أو ثلاثة، تحوّلت هذه الاختلالات إلى مشكلات جوهرية، تُركت لتستفحل عمداً: من هنا تعمّق العجز المالي في مقابل الفائض في الحسابات الجارية وحسابات الاستهلاك، بينما تضخمت دائرة الفضاء المالي وانعدمت المساواة والقدرة على ضبط المجموعات الشعبية، في حين بقيت حركة الرساميل والبضائع على حريتها.
أكان ذلك على صعيد وطني أم أوروبي أم دولي، فإن إدارة الخلل هذه تحوّل المجتمع إلى معطى يجري تعديله بحسب ما تقتضيه الحاجة. فرئيس «جمعية تجار بيروت» نقولا شماس قالها في وجه مَن يتظاهرون في وسط بيروت ضد البرلمان غير الشرعي بأنه يرفض أن تتحوّل هذه البقعة الفخمة، التي بُنيت في العام 1990 لتكون بمثابة مركز تسوّق كبير، إلى سوق «أبو رخوصة». هذه الأوليغارشية اللبنانية التي تلهث خلف المستثمرين الخليجيين وتخدم ملايين المغتربين المحرومين من حقوقهم السياسية والاجتماعية، كي تصبح صورة عن المجتمعات الخليجية.
هكذا، تترجم صورة المكاسب الإنتاجية التي يقدّمونها بتراكم للثروات يقابله ارتفاع لنسبة البطالة. ويستتبع الأسلوب المعتمد في إدارة الخلل ممارسة العنف، والاستخدام المفرط للقوة وتفتيت المجتمعات (المؤسسات). وإن حظيت الولايات المتحدة، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بتفوّق ساحق امتد لعقدين من الزمن، فهل سيبقى هو حالها في مواجهة صعود القوى في الصين وروسيا؟ وهل فرنسا وأوروبا مستعدتين لهذا الصعود؟ من هنا تعمد سياسة إدارة الخلل في لبنان بهذه الطريقة على تعميق الشعور بالعجز على التأثير في القرار الذي يفترض أن من يُمسِك بزمامه طرف خارجي سواء أكان في فرنسا، او اليونان، أو لبنان أو في مكان آخر، ما يؤدي إلى ذبول السياسة.
لقد بات واضحاً، بأن الحراك الشعبي الذي يشهده لبنان منذ أكثر من شهر يأتي بالتحديد ضد نموذج المجتمع والسلطة الذي جرى طرحه على مجتمعات الشرق الأوسط، لأن الحرب الأهلية التي عاشها لبنان قد سبقت بخمسة وعشرين عاماً تلك التي تعصف بالمنطقة. نزل اللبنانيون تعبيراً عن رفضهم لقادة المناطق والايديولوجيات الدينية والقوى المالية. وينبئ هذا الحراك ببراعم تتفتح في لبنان في سبيل حركة تصحيحية ضرورية. من هنا، ألا يكون من الأجدى أن توليه فرنسا المزيد من الاهتمام، عوضاً عن استقبال الشخصيات الإشكالية من السلطة، المسلّم بعدم شرعيتها وعجزها في آن؟
ولا ينطلق هذا المطلب من نظرية الروابط التاريخية التي تزن قليلاً مقارنة بالمصالح الاقتصادية والتجارية، وإنما من المصالح التي يفهمها المجتمع الفرنسي جيداً، الذي لن يُعتبر بمأمن من الحدود التي يسهل اختراقها ولا من الحلفاء الخارجيين غير المرغوب فيهم.
نُشر في جريدة «لوموند» الفرنسية
ترجمة هيفاء زعيتر