IMLebanon

فرنسا «الأم الحنون» ولبنان «الابن البائس»

عام 1978، عاد الرئيس اللبناني الراحل الياس سركيس من زيارته الرسمية لباريس وفي محفظته ورقة صغيرة عليها عبارة فرنسية، هذه ترجمتها: «لبنان، الكيان، والشعب، والجمهورية، مقيم دائم في ضمير فرنسا، أياً يكن الرئيس في بيروت، وأياً يكن الرئيس في باريس».

والذين قرأ لهم الرئيس سركيس هذه العبارة لم يسألوه مَن قائلها، أو كاتبها. هل هو الرئيس الجنرال شارل ديغول، أم الرئيس جورج بومبيدو، أم هو الرئيس فاليري جيسكار ديستان الذي وجه الدعوة إلى سركيس لزيارة فرنسا؟

حضرت تلك العبارة الفرنسية في الزيارة الخاصة التي قام بها الرئيس فرنسوا هولاند إلى بيروت يومي 16 و17 نيسان (أبريل) الجاري حيث لم يكن في استقباله في المطار رئيس جمهورية لبناني ما يزال غائباً، ومجهولاً في دهاليز المساومات المفتوحة على دواوين المراجع السياسية الإقليمية والدولية.

لم يكن الرئيس هولاند في حاجة لمن يشرح له أزمة لبنان الرئاسية، ولعله أصرّ على زيارته في الفراغ المقيم في القصر الجمهوري منذ سنتين لكي يؤكد حضور فرنسا الثابت إلى جانب الكيان اللبناني (الجمهورية والنظام) الذي وُلد في حضن «الأم الحنون» فرنسا على درج «قصر الصنوبر» في بيروت العام 1920.

هذا ما فعله أيضاً الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان، حين دعا الرئيس سركيس إلى «زيارة دولة» لباريس، حين كانت الجمهورية اللبنانية في أتعس حالاتها. كانت مصيبة (13 نيسان/ أبريل 1975) ما تزال تتفاعل، وكان سركيس انتخب بقرار من دمشق قبل ستة أشهر من انتهاء ولاية سليمان فرنجية. وقد تولت «منظمة الصاعقة» السورية في المقاومة الفلسطينية تنفيذ عملية الانتخاب من زاوية فندق «كارلتون» في بيروت، حيث جلس أحد أركان المنظمة، وأمامه لائحة بأسماء وعناوين جميع نواب لبنان، وراح يتصل هاتفياً بكل منهم ليدعوه إلى جلسة الانتخاب المفتوحة في المقر الموقت لمجلس النواب في ما كان يُسمى «قصر منصور» في شارع فؤاد الأول قبالة «قصر الصنوبر»، ويتذكر من كان في تلك المناسبة أن من كان يرفض أو يعتذر، كان يتلقى تهديداً، وبعض آخر كان يخرج من منزله بقوة السلاح ويذهب إلى جلسة الانتخاب في مواكبة ميليشيا.

والمؤلم المحزن في ذلك اليوم من العملية الانتخابية «الديموقراطية» تحت رعاية «قوات الردع» السورية، أن المرشح الياس سركيس كان هو أيضاً في فندق «كارلتون» بالقرب من «غرفة عمليات «الصاعقة»، وكان يسمع الأصوات العالية المهددة عبر الهاتف لبعض النواب، وهو كان يتمشى في الصالة الصغيرة، وحوله بعض الأصدقاء، بانتظار إعلان النتيجة عبر التلفزيون. وإذ أُعلن فوزه بالرئاسة توقف عن المشي، وبدا وجهه متجهماً. وحين قال له أحد الأصدقاء «مبروك فخامة الرئيس» لم يجب بكلمة. ولما سأله صحافي كان موجوداً في الغرفة عن الهم الأول الذي يشغل فكره، قال فوراً: الليرة اللبنانية… كان وضع الليرة اللبنانية الهم الأكبر لحاكم البنك المركزي الذي صار «فخامة رئيس جمهورية لبنان».

وعلى علاّت ذلك الانتخاب كانت فرنسا حاضرة إلى جانب الرئيس اللبناني، وقد انتظر الرئيس الفرنسي في ذلك الزمن فاليري جيسكار ديستان نحو سنة ونصف السنة ليدعو الرئيس للقيام بزيارة دولة إلى فرنسا. لكن المفاجأة جاءت من سركيس، إذ هو تمنى على الرئيس ديستان أن يجعلها «زيارة عمل»، وكان ديستان قد أرادها زيارة دولة لكي يقيم لرئيس لبنان استقبالاً حافلاً في مطار «أورلي» في باريس، ولكي يستقلّ معه سيارة رئاسية مكشوفة تخترق شوارع باريس في مشهد احتفالي حتى قصر «الإليزيه»، وهذا ما جرى للرئيس شارل حلو عندما لبى دعوة الرئيس شارل ديغول وزار فرنسا في أيار (مايو) من العام 1965. وكان الرئيس حلو قد وصل إلى باريس من البوابة المصرية، حيث كانت زيارته الأولى للقاهرة مشاركاً الرئيس جمال عبد الناصر في الإطلالة على الملايين عشية عيد العمال في أول أيار (مايو).

انتهى عزّ الرئاسة اللبنانية في العام 1975. في ذلك اليوم المشؤوم 13 نيسان (أبريل) يوم كانت المؤامرة المدبرة لدفع لبنان إلى هذه الحال التي يتخبط فيها منذ ست وأربعين سنة، تقاطرت خلالها مواكب شهدائه مع قوافل النزوح من خرائب مدينة النور، والعلم، والحضارة، والفرح.

منذ ذلك التاريخ خرجت بيروت من روحها، روح لبنان واللبنانيين، وغادرتها تلك «الشكليات» من الديموقراطية، والمدنية، والعلاقات المميزة مع الدول العربية، ومع دول العالم قاطبة، وما يتبعها من سياحة، وازدهار، واستقرار، وانفتاح وطموح يبلغ حدود الجموح، لتنتهي بيروت، عاصمة الجمهورية، والكيان، والاستقلال، مدينة حزينة، رهينة، ممنوعة من انتخاب رئيس جمهوريتها، ومحكومة بالفراغ والشلل حتى تستسلم بقية «حاميتها» من النواب والوزراء والمراجع السياسية الرافضة انتخاب المرشّح المطلوب للسير على الخط المرسوم من بيروت إلى دمشق، فطهران. وإلا فلتبق بيروت عاصمة مشلولة، مظلمة، تملأها النفايات وتعشّش فيها وفي ضواحيها أوكار العصابات. ولتفلس مؤسساتها، وفنادقها، ومنتجعاتها السياحية، وأسواقها، ومتاجرها، ودكاكينها، ويعمّ اليأس وليأتي رئيس جمهورية فرنسا زائراً من دون دعوة، فيسمع ما هو في غنى عنه، لأنه يعرفه، ويعرف الأكثر. وحين يسأل: لماذا لا تنتخبون رئيساً؟ يلمح الحيرة على وجوه المستمعين، ولا جواب.

ماذا يريد لبنان من فرنسا لتساعد في هذه الحال؟ لا جواب.

سبق لفرنسا أن واجهت شكلاً من أشكال المعضلة الديموقراطية التي تعانيها الجمهورية اللبنانية منذ العام 1975. ففي ختام زيارة العمل التي قام بها الرئيس الياس سركيس لباريس عام 1978 عُقد اللقاء الثنائي الأخير في قصر الإليزيه بين الرئيس المضيف والرئيس الضيف، وحدثت تلك المفارقة النادرة في تاريخ العلاقات الفرنسية- اللبنانية، وتروى للمرة الأولى.

فقبيل ظُهر ذلك اليوم الباريسي كانت باحة قصر «الإليزيه» خالية إلا من حرس الشرف بسيوفه المرفوعة على جانبي البوابة الرئيسية، وكانت هناك فرقة من هذا الحرس منتظمة في صف بانتظار خروج الضيف الرئاسي اللبناني المغادر عائداً إلى بيروت.

وفي قصر الضيافة (قصر ماريبيني) المحاذي لقصر الإليزيه، كان رئيس حكومة لبنان، رفيق الرئيس سركيس في تلك الزيارة، يجلس وحيداً في صالون جناحه، مهيأً لحفل الوداع الرسمي، في حين كان الصحافيون بالعشرات بانتظار المؤتمر الصحافي الذي سيعقده الرئيسان.

…لحظات، وحصلت المفاجأة الأولى، فقد دخل الرئيس اللبناني القاعة منفرداً، فيما بقي الرئيس الفرنسي في ديوانه.

دائماً وفي أكثر المناسبات، كانت مسحة أسى تبدو على وجه الرئيس سركيس، حتى وهو يبتسم. وكانت تلك المسحة من الأسى على وجهه حين واجه الصحافيين وهو على المنصة، وفي يده ورقة تتضمن نص الكلمة التي سيلقيها، وكانت قصيرة، وخلاصتها الشكر والامتنان للرئيس فاليري جيسكار ديستان، وللجمهورية الفرنسية عموماً، على ما لقي من الحفاوة والترحيب والتكريم، والاهتمام بلبنان الدولة والشعب. ثم شكر الصحافيين رافعاً يديه علامة لا أسئلة.

وفيما ارتفعت أصوات الصحافيين بالأسئلة نزل الرئيس سركيس عن المنصة واتجه نحو صالون مفتوح على صالة الصحافة، فدخل وأغلق الباب. كانت أسئلة الصحافيين قد تحولت احتجاجاً، وكان بينهم صحافي لبناني من خارج الوفد الرسمي المرافق للرئيس اللبناني، فطرق الباب ودخل ليجد الرئيس شابكاً يديه وراء ظهره وهو يذرع الصالون ذهاباً وإياباً، وإذ سأله لماذا واجه الصحافيين بتلك الصدمة توقف ليبوح بما لم يكن يستطيع أن يقوله.

وبلجهة لا تخلو من الحدة قال: قبلت دعوة الرئيس جيسكار ديستان نزولاً عند رغبته وإلحاحه كي يعرض علي الدعم والمساعدات التي تحتاج إليها الدولة اللبنانية بعد السنوات الثلاث الصعبة التي مرت عليها منذ مصيبة 13 نيسان (أبريل). وكان الرئيس ديستان يريد لنا «زيارة دولة» ليشاهد الفرنسيون الرئيس اللبناني بينهم، وليشاهدوا الأعلام اللبنانية مرفوعة إلى جانب الأعلام الفرنسية في الساحات والشوارع العامة في العاصمة باريس، لكني اعتذرت، وقلت للرئيس ديستان إنني لست مهيأً لمثل هذه الإطلالة ولبنان مقيّد بأغلاله.

وأضاف سركيس بحسرة: هل كنت أستطيع أن أطلب من الرئيس ديستان أسلحة ومعدات حربية لتعزيز قدرات الجيش اللبناني فيستولي عليها السوريون في المرفأ وينقلونها إلى ثكناتهم؟

وهل كان بإمكاني أن أطلب أجهزة فنية للإدارة أو للمطار، أو المرفأ، فلا تنجو من وضع اليد عليها؟

وهل كان بإمكاني أن أطلب أجهزة فنية وخبراء فرنسيين لتحديث الإدارات الرسمية المدنية وفي وزارة الدفاع، وفي أجهزة قوى الأمن الداخلي، وكل هذه المؤسسات تحت المراقبة السورية ذات «اليد الطويلة» فيها؟

ولذلك –قال الرئيس سركيس– اكتفيتُ بطلب استمرار رعاية فرنسا للبنان الجمهورية، والشعب، والدولة مع دعمها السياسي والمعنوي في المحافل الدولية.

ثم، بابتسامة خفيفة، وبصوت خافت، قال: «لقد أفرغت جراب همومي أمام «الأم الحنون». رحم الله الرئيس الياس سركيس الذي قضى شهيداً للجمهورية في معاناته مع النظام السوري.

ثمان وثلاثون سنة مضت على تلك الزيارة الرئاسية اللبنانية الكئيبة لفرنسا، وحال الرئاسة ولبنان أسوأ حال. ومع ذلك أصرّ الرئيس فرنسوا هولاند على أن ينزل في بيروت وهو كان يدرك مسبقاً أنه سوف يلاقي مناخاً سلبياً يتصل بمرحلة من الزمن السوري المستمر امتداداً إلى إيران، منذ العام 1975. ولقد جاء ليضع علامة التأكيد على أن فرنسا باقية على عهدها للبنان، أياً يكن الرئيس في بعبدا، وأياً يكن الرئيس في باريس.

وقد صح على زيارة الرئيس هولاند القول اللبناني المأثور معدلاً:

«يا ضيفنا (قد) زرتنا فوجدتنا

نحن الضيوف وأنت رب المنزل».